شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب

          ░150▒ باب: مَا يُتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
          فيه: تشهُّد ابنِ مسعود، وقَالَ في آخره: ثُمَّ ليَتَخَيَّرُ(1) مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَدْعُو. [خ¦835]
          اختلف العلماء في هذا الباب فقال مالك والشافعيُّ وجماعة: لا بأس أن يدعو الرجل في صلاتِه بما شاء من حوائج الدنيا(2)، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يدعو في الصلاة إلَّا بما يوجد في القرآن، وهو قول النَّخَعِي وطاوس، واحتجُّوا بحديث معاوية بن الحكم لما شمَّت الرجلَ في الصلاة، فقال(3) له النبي صلعم: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين إنَّما هي تسبيح وقراءة)).
          قالوا(4): ولا يجوز أن يريد(5) جنس الكلام لأنَّ جميع ما يوجد في الصلاة من الأذكار من جنس الكلام، فوجب أن يكون المراد ما يتخاطبون به(6) في العادة، وقولُه: يرحمك الله، دعاء، وقد نهى النبيُّ صلعم عنه(7)، وهذا يمنع من فعل الدعاء بهذا الجنس.
          قال ابن القصار: فالجواب لأهل المقالة الأولى أنَّ هذا وشبهَه لا يجوز عندنا، وهو أن يوجه دعاءَه إلى إنسان يخاطبُه به في الصلاة، وكأنَّه جوابٌ عندنا(8) على شيءٍ كان منه، فأمَّا أن يدعو لنفسِه ولغيرِه ابتداء من غير أن يخاطب فيه(9) إنسانًا فلا قضاء، وقوله(10)◙: لا يصلح فيها شيء من خطاب الناس متوجه(11) إلى هذا، أي: / لا يتخاطب الناس في الصلاة(12).
          ومن الحجَّة لهم قوله ╕، في حديث ابن مسعود بعد فراغِه من التشهُّد: ((ثم ليتخير من الدعاء أعجبَه ويدعو))، ولم يخصَّ دعاءً في القرآن من غيرِه ولو كان لا يجوز الدعاء إلَّا بما في القرآن ما ترك النبي صلعم بيان ذلك ولقال: ثمَّ ليدعو بما شاء ممَّا في القرآن، فلمَّا عمَّ جميع الدعاء لم يخُصَّ بعضَه إلَّا بدليل. واستعاذتُه ◙ في حديث عائشة من عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن المأثم والمغرم ليس(13) شيءٌ منه في القرآن، وقد رُوي عن جماعة من السلف مثل ذلك، رُوي(14) عن ابن عمر أنَّه قال: إنِّي لأدعو في صلاتي حتَّى لشعير حماري وملح بيتي، وعن عروة بن الزبير مثلُه. وكان رسول الله صلعم يدعو في الصلاة فيقول: ((اللَّهُمَّ أنجِ الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين، واشددْ وطأتك على مضر)).
          فإن قيل: يُحتمل أن يكون هذا وقتَ إباحة الكلام في الصلاة، ثم نُسخ بعد ذلك.
          قيل: قد رُوي عن السلف استعمال(15) الحديث، ولا يجوز أن يخفى عليهم نسخه لو نُسخ، فكان(16) عليُّ بن أبي طالب ☺(17) يقنت في صلاة(18) على قوم يسمِّيهم، وكان أبو الدرداء يدعو لسبعين رجلًا في صلاتِه، وعن ابن الزبير أنَّه كان يدعو للزبير في صلاتِه، وإذا انضاف(19) قول هؤلاء إلى قول عروة وابن عمر جرى(20) مجرى الإجماع(21) إذ لا مخالف لهم، وقد كان ◙ يدعو في سجودِه: ((أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك))، وهذا مما ليس في القرآن، فسقط قول المخالف، ورُوي عن ابن سيرين أنَّه قال: يجوز الدعاء في المكتوبة بأمر الآخرة، فأمَّا(22) الدنيا فلا، فقال(23) ابن عون: أليس في القرآن {وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ}[النساء:32]؟ فسكت. وترجم في كتاب الدعاء: باب الدعاء في الصلاة، وسيأتي فيه شيء من الكلام في حديث أبي بكر(24) إن شاء الله تعالى.


[1] في (ق): ((يتخير)).
[2] في (م) و(ق): ((دنياه)).
[3] في (ق) و(م): ((قال)).
[4] قوله: ((قالوا)) ليس في (ق).
[5] في (م): ((قالوا ولا يريد أن)) ولعله ضرب على ((أن)).
[6] قوله: ((به)) ليس في (م).
[7] في (م) و(ق): ((نهى عنه ◙)).
[8] في (م) و(ق): ((لإنسان)).
[9] في (م) و(ق): ((به)).
[10] في (م): ((قوله)).
[11] في (م): ((متوجهًا)).
[12] في (ق): ((من غير أن يخاطب به إنسانًا بلا، فصار قوله: لا يصلح فيها شيء من خطاب الناس في الصلاة)).
[13] في (م) و(ق): ((فليس)).
[14] في (م): ((وروي)).
[15] زاد في (م) و(ق): ((هذا)).
[16] في (م) و(ق): ((فروي عن)).
[17] زاد في (م): ((أنه كان))، و زاد في (م): ((كان)).
[18] في (م) و(ق): ((صلاته)).
[19] في (م): ((صلاته، وانضاف)).
[20] في (م) و(ق): ((إلى قول ابن عمر وعروة فجرى)).
[21] في (ق): ((الجمع)).
[22] زاد في (م) و(ق): ((أمر)).
[23] زاد في (م): ((له)).
[24] زاد في (م) و(ق): ((الصديق ☺ على حسب ما يقتضيه التبويب)).