شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب القراءة في الظهر

          ░96▒ باب: الْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ.
          فيه: جابر بن سمرة، قال سعد: (كُنْتُ أُصَلِّي بِهِم صَلَاةَ رَسُوْلِ اللهِ صلعم صَلَاتَي العَشِيِّ(1) لَا أَخْرِمُ عَنْهَا، كُنْتُ(2) أَرْكُدُ في الأُولَيَيْن وَأَحْذِفُ فِي الأُخْرَيَيْنِ، قال(3) عُمَر: ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ). [خ¦758] [خ¦759]
          وفيه: أَبو قَتَادَةَ قَالَ(4): (كَانَ النبيُّ صلعم، يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ(5) بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الأولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، يُسْمِعُ(6) الآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ)(7).
          وفيه: خَبَّاب قيل له: (أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذلكَ؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ). [خ¦760]
          قال المؤلف(8): إنَّما ساق البخاريُّ هذه الآثار لأنه قد رُوي عن ابن عباس ما يعارضها، وذلك ما روى أبو ذرٍّ(9)، عن(10) شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس أنه سألَه رجل أفي الظهر والعصر قراءة؟ فقال(11): لا. وروى عنه عِكْرِمَة أنه قال: قرأ رسول الله صلعم في صلوات وسكت، فنقرأ(12) فيما قرأ ونسكت فيما سكت، فقيل له: فلعلَّه(13) كان يقرأ في نفسِه فغضب، وقال: تتَّهمُ(14) رسول الله صلعم!.
          قال الطحاويُّ: فذهب قوم إلى ما رُوي عن ابن عباس فقالوا: لا نرى لأحدٍ أن يقرأ في الظهر والعصر البتَّة، وهو قول سويد بن غفلة. وقال الطبريُّ: قال الآخرون(15): في كلِّ صلاة قراءة، غير أنه يجزئ فيما أُمر المصلي أن يخافت فيه بالقراءة قراءتَه في ركعتين منها، وله أن يُسبِّح في باقيها، ورُوي(16) ذلك عن ابن مسعود والنخعيِّ، فجعل أهل هذه المقالة سكوت النبي صلعم على الخصوص، وقالوا: إنما كان يسكت عن القراءة في الأُخريين، وأمَّا(17) الأُوليين(18) فإنه كان يقرأ فيهما لأنه لا خلاف بين الجميع أنه كان يقرأ فيما(19) يجهر فيه من الصلوات في الأوليين قالوا: فحُكم ما خافت فيه الإمام بالقراءة حكم ما جهر فيه، في أنَّ في الأوليين قراءة وترك القراءة في الأُخريين، هذا قول الكوفيين.
          وقال آخرون: لم يكن النبي صلعم، ترك(20) القراءة في شيء من صلاتِهِ، ولكنَّه كان يجهر في بعض ويخافت في(21) بعض، هذا قول أهل الحجاز وأحمد وإسحاق، وأنكروا قول ابن عباس، وقالوا: قد رُوي عنه خلاف ذلك بإسناد أصحَّ من إسناد الخبر عنه بإنكار القراءة في الظهر والعصر.
          وقال(22) الطبري: وذلك ما حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم(23) عن حصين عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال: ((قد علمتُ السنَّة كلَّها، غير أني لا أدري أكان رسول الله صلعم يقرأ في الظهر والعصر أم لا))(24)، ولا يندفع(25) العلم اليقين بغير علم.
          قال الطحاويُّ: وقد رُوي عن ابن عباس من رأيه(26) خلاف ما تقدَّم عنه، روى إسماعيل ابن أبي خالد، عن العيزار(27) بن حريث، عن ابن عباس قال: ((اقرأ خلف الإمام بفاتحة الكتاب في الظهر والعصر))، فهذا ابن عباس قد قال من رأيه: أن المأموم يقرأ خلف الإمام في الظهر والعصر(28)، وقد رأينا الإمام يحمل عن المأموم ولم نر المأموم يحمل عن الإمام شيئًا، فإذا كان المأموم يقرأ فالإمام أحرى بذلك.
          وإذ قد صحَّ عنه أنه قال: / لا أدري أقرأ رسول الله صلعم أم لا؟! فقد انتفى ما قال من ذلك؛ لأن غيرَه قد حقَّق قراءة رسول الله صلعم فيهما، وهو نص حديث أبي قَتادة ودليل حديث خَبَّاب وسعد، وقد روي(29) عن يحيى في حديث أبي قَتادة: أنَّ النبيّ صلعم كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم القرآن(30) وسورتين، وفي الأخريين بأم الكتاب، وهو(31) قاطع للخلاف، ذكرَه البخاريُّ في باب يقرأ في الأُخريين بفاتحة الكتاب(32) بعد هذا.
          وروى سفيان عن ابن جُريج، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: ((في كلِّ الصلاة قراءة فما أسمعنا(33) رسول الله صلعم أسمعناكم، وما أخفاه عنا أخفيناه عنكم)).
          وروى(34) شعبة عن سِمَاك عن جابر بن سمرة قال: ((كان رسول الله صلعم يقرأ في الظهر بسبح اسم ربك الأعلى)). وحماد بن سلمة عن سِمَاك عن جابر بن سمرة: ((أن النبيَّ صلعم كان يقرأ في الظهر والعصر بـ{السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}[الطارق:1]، و{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}[البروج:1])).
          وقال(35) الطبريُّ: وليس في خبر ابن عباس إنكارُه(36) القراءة في الظهر والعصر خلاف فيما(37) ثبت عن النبيِّ صلعم، أنَّه قرأ فيهما(38) لأن ابن عباس لم يذكر أن النبيَّ صلعم، قال له(39): لا قراءة في الظهر والعصر، وإنما أخبر أنه سكت فيهما، وغير نكير أن يقول إذا لم يسمعْه يقرأ أنه سكت، فيخبر بما كان من حالِه عندَه، فالذي(40) أخبر ابن عباس أن النبيَّ صلعم لم(41) يقرأ كان الحق عندَه، والذي أخبر أنه قرأ فإنه(42) سمع قراءتَه.
          فمن سامع منه(43) الآية ومن سامع قراءة(44) سورة، ومن سامع منه أمرَه بالقراءة في الصلاة، فوَجَّه ذلك إلى أنه أمر بالقراءة في جميع الصلاة(45)، ووجَّهَه غيرُه إلى أنه أمر بذلك في بعض الصلاة(46)، ومن رآه يحرك شفتيه في الظهر والعصر، فوجَّهَه إلى أنه لم يحركهما إلا بقراءة القرآن، فكلٌّ أخبر بما عندَه، وكلٌّ(47) كان صادقًا عند نفسِه.
          والمصيب عينَ الحق(48) أخبر أنه صلعم كان يقرأ في الظهر والعصر وذلك أن في خبر أبي قَتادة أنه كان يُسمعهم الآية أحيانًا، فالشاهد إنما يستحق أن يُسمَّى شاهدًا فيما أخبر عن سماع أو رؤية.
          فأما من أخبر أنه لم يسمع ولم يرَ فغير جائز أن يجعل خبرَه خلافًا لخبر من قال: رأيتُ أو سمعتُ؛ لأن من قال: سمعتُ أو رأيتُ فهو الشاهد، ومن قال: لم أسمع، فقد أخبر عن نفسِه أنه لا شهادة عندَه في ذلك، والنفي لا يكون شهادة في قول أحد من أهل العلم.
          وقال الطحاويُّ: وأما النظر في ذلك، فإنَّا رأينا القيام(49) والركوع والسجود فرائض لا تُجزئ الصلاة إذا ترك شيئًا منها، وكان ذلك في سائر الصلوات سواء، فرأينا(50) القعود الأول سنة في الصلوات كلِّها سواء(51)، ورأينا القعود الآخر فيه اختلاف بين الناس، منهم من يقول: هو سنة(52)، ومنهم من يقول: هو فرض، وكلُّ فريق منهم قد جعل ذلك في كلّ الصلوات سواء، فكانت هذه الأشياء ما كان منها فرضًا في صلاة كان كذلك في كلِّ الصلوات(53)، فلما رأينا القراءة في الصبح والمغرب والعشاء(54) واجبة في قول المخالف لابدَّ منها، كان كذلك في الظهر والعصر، وهذه حجج(55) قاطعة على من نفى(56) القراءة في الظهر والعصر ويراها فرضًا في غيرها.
          وفي قول أبي قَتادة: ((وَكَانَ يُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا)) دليل أنَّه كان ذلك من فعلِه على القصد إليه والمداومة عليه. وفيه حجة لقول ابن القاسم أنه من جهر فيما يُسَرُّ فيه أنه لا سجود(57) عليه إذا كان يسيرًا، وروى عن مالك(58): إذا جهر الفذّ فيما يُسَرُّ فيه جهرًا خفيفًا فلا بأس به، وقد اختلف فيمن(59) أسرَّ فيما يُجهر فيه عامدًا، فروى(60) أشهب عن مالك أن صلاتَه تامَّة، وقال أصبغ فيمن(61) أسرَّ فيما يجهر فيه أو جهر في الإسرار عامدًا: فليستغفر الله ولا إعادة عليه.
          وقال ابن القاسم: يعيد لأنه عابث، وقال الليث: إذا أسرَّ فيما يُجهر فيه فعليه سجود السهو، وقال الكوفيون: إذا أسرَّ في موضع الجهر أو جهر في موضع السرِّ(62) وكان إمامًا سجد لسهوِه(63)، وإن كان وحدَه فلا شيء عليه، وإن فعلَه عامدًا / فقد أساء وصلاتُه تامة، وقال ابن أبي ليلى: يعيد بهم الصلاة إذا كان إمامًا، وقال الشافعيُّ: ليس في ترك الجهر والإسرار(64) سجود.
          قال المؤلف: ومن لم(65) يوجب السجود في ذلك أشبه بدليل(66) هذا الحديث؛ لأنه لما كان السرُّ والجهر من سنن الصلاة وكان صلعم، قد جهر في بعض صلاة السِّرِّ ولم يسجد لذلك كان كذلك حكم(67) الصلاة إذا جهر فيها، لأنه لو اختلف الحكم في ذلك لبيَّنَه صلعم، ووجب بالدليل الصحيح أن يكون إذا أسرَّ فيما يجهر فيه أيضًا(68) لا يلزمُه سجود، إذ السرُّ والجهر في المعنى سواء، ولا وجه لتفريق الكوفيين بين حكم الإمام والمنفرد في ذلك إذ لا(69) حجَّة لهم فيه من كتاب ولا سنَّة ولا نظر.
          وفيه: أن الحكم في السرِّ أن يُسمع الإنسان نفسَه، وفي حديث خَبَّاب الحكم بالدليل لأنهم حكموا باضطراب لحيتِه(70) صلعم، أنه كان يقرأ.


[1] قوله: ((صلاتي العشي)) ليس في (م) و(ق).
[2] قوله: ((كنت)) ليس في (ق) و(م)، وفي (ص): ((بحيث)).
[3] في (ق): ((وقال)).
[4] قوله: ((قال)) ليس في(م) و(ق).
[5] في (ق): ((من صلاته للظهر)).
[6] في(م) و(ق): ((وكان يسمعنا)).
[7] قوله: ((وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ...وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ)) ليس في (م) و(ق) وفي (م) بدله: ((الحديث)).
[8] قوله: ((قال المؤلف)) ليس في (م) و(ق).
[9] في(م) و(ق): ((روى بن أبي ذئب)).
[10] في (ق): ((لأنه)).
[11] في(م): ((قال)).
[12] في (ق): ((نقرأ)).
[13] في(م) و(ق): ((لعله)).
[14] في(م): ((نتهم)).
[15] في(م) و(ق): ((وقال آخرون)).
[16] في(م) و(ق): ((روي)).
[17] في (ق): ((فأما)).
[18] في(م) و(ق): ((الأوليان)).
[19] زاد في(م) و(ق): ((كان)).
[20] في(م) و(ق) و(ص): ((يترك)).
[21] في (ق): ((ولكنه يجهر بها في بعض ويخافت بها في)).
[22] في(م) و(ق): ((قال)).
[23] في(م) و(ق) و(ص): ((هشام)).
[24] زاد في(م) و(ق): ((فهذا ابن عباس يخبر عن نفسه أنه لا علم عنده في ذلك)).
[25] في(م): ((يدفع))، وفي (ق): ((يرفع)).
[26] زاد في(م) و(ق): ((ما يدل على)).
[27] في (ق): ((العزان)) وفي (ص): تحتمل عدة أوجه.
[28] قوله: ((في الظهر والعصر)) ليس في (ق).
[29] في(م) و(ق): ((روى همام)).
[30] في(م) و(ق): ((الكتاب)).
[31] في(م) و(ق): ((وهذا)).
[32] قوله: ((وسورتين)) ليس في (ق) و(م).
[33] في (ق): ((سمعنا)).
[34] في (ق): ((روى)).
[35] في(م) و(ق): ((قال)).
[36] في(م): ((بإنكاره))، وفي (ق): ((إنكار)).
[37] في(م) و(ق): ((لما)).
[38] في(م) و(ق): ((فيها)).
[39] قوله: ((له)) ليس في (م).
[40] في(م) و(ق) و(ص): ((والذي)).
[41] قوله: ((لم)) ليس في (م).
[42] في(م) و(ق): ((فإنهم)).
[43] في(م) و(ق): ((منها)).
[44] في (ص): ((منه)).
[45] في(م) و(ق): ((الصلوات)).
[46] في (ق): ((الصوات)).
[47] في(م) و(ق): ((وكلهم)).
[48] زاد في(م) و(ق): ((من)).
[49] في (ق): ((للقيام)).
[50] في(م) و(ق): ((ورأينا)).
[51] في (ق): ((سنة وهو في كل الصوات سواء)).
[52] قوله: ((في الصلوات كلِّها سواء، ورأينا القعود الآخر فيه اختلاف بين الناس، منهم من يقول: هو سنة)) ليس في (م).
[53] في (ق): ((في صلاة فهو فرض في كل الصلوات)).
[54] في (ق): ((في المغرب والعشاء والصبح)).
[55] في(م) و(ق): ((حجة)).
[56] في(م) و(ق): ((ينفى)).
[57] زاد في(م) و(ق): ((سهو)).
[58] زاد في(م): ((أنه)).
[59] في (ص): ((فيما)).
[60] في (ص): ((وروى)).
[61] في(م): ((من)).
[62] زاد في(م) و(ق): ((ساهيًا)).
[63] في (ق): ((للسهو)).
[64] في(م) و(ق): ((والإخفاء)).
[65] في(م) و(ق): ((سجود، وقول من لم)).
[66] في (ص): ((دليل)).
[67] زاد في(م) و(ق): ((جميع)).
[68] زاد في(م) و(ق): ((أن)).
[69] في (ق): ((ذلك، ولا)).
[70] زاد في(م) و(ق): ((فيما أسرَّ فيه)).