شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الالتفات في الصلاة

          ░93▒ بَاب: الالْتِفَاتِ فِي الصَّلاة.
          فيه: عَائِشَة قَالَتْ: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم عَنِ الالْتِفَاتِ فِي الصَّلاة، فَقَالَ: هُوَ اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاةِ الْعَبْدِ). [خ¦751]
          وفيه: عَائِشَة: (أَنَّ النبيَّ صلعم صلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ، فَقَالَ: شَغَلَتْنِي / أَعْلامُ هَذِهِ، اذْهَبُوا بِهَا إلى أَبِي جَهْمٍ، وَأْتُونِي(1) بِأَنْبِجَانِيَّةٍ). [خ¦752]
          الالتفات في الصَّلاة مكروه عند العلماء، وذلك أنَّه إذا أومأ ببصرِه(2) وثنَى عنقَه يمينًا وشمالًا ترك(3) الإقبال على صلاتِه، و(4) فارق الخشوع المأمور به في الصَّلاة، ولذلك جعلَه النبيُّ صلعم اختلاسًا للشيطان مِن الصَّلاة، وأمَّا إذا التفت لأمرٍ يَعِنُّ له مِن أمر الصَّلاة أو غيرها فمباحٌ له ذلك وليس مِن(5) الشيطان، والله أعلم.
          وقال(6) المُهَلَّب: قوله: (هو اختلاس يختلسُه الشيطان من صلاة العبد)، هو حضٌّ على إحضار المصلِّي ذهنَه ونيَّتَه لمناجاة ربِّه، ولا يشتغل بأمر(7) دنياه، وذلك أنَّ المرء(8) لا يستطيع أن يُخلِّص صلاتَه مِن الفكر في أمور دنياه؛ لأنَّ النبي صلعم قد أخبر أنَّ الشيطان يأتي إليه في صلاتِه، فيقول له: اذكر كذا اذكر كذا(9)؛ لأنَّه موكَّل به في ذلك، وقد قال صلعم: ((من صلَّى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسَه غُفر له))، وهذا إنما هو لمغالبة(10) الإنسان، فمَن جاهد شيطانَه ونفسَه وجبتْ له الجنَّة، وقد نظر ◙، إلى عَلم(11) الخميصة وقال: إنَّها شغلته(12)، فهذا ممَّا لا يُستطاع على دفعِه في الأعمِّ.
          وقد اختلف السلف في ذلك فممَّن كان لا يلتفت في الصَّلاة أبو بكر وعمر ☻، وقال ابن مسعود: إنَّ الله لا يزال مقبلًا على العبد ما دام في صلاتِه ما لم يُحدث أو يلتفتْ.
          ونهى عنه أبو الدرداء وأبو هريرة، وقال عَمْرو بن دينار: رأيتُ ابن الزبير يُصلِّي في الحِجر، فجاءَه حجر قُدَّامَه فذهب بطرف ثوبِه، فما التفت. وقال ابن أبي مليكة: إنَّ ابن الزبير كان يُصلِّي بالناس، فدخل سيلٌ في(13) المسجد فما أنكر الناس مِن صلاتِه شيئًا حتَّى فرغ منها. وقال الحكم: مَن تأمَّل مَن عن يمينِه أو شمالِه في الصَّلاة حتَّى يعرفَه فليست له صلاة، وقال أبو ثور(14): إن التفتَ ببدنِه كلِّه أفسد صلاتَه. وقال الحسن البصريُّ: إذا استدبر الرجل القبلة استقبل صلاتَه، وإن التفت عن يمينِه أو شمالِه مضى في الصَّلاة(15).
          ورخَّصتْ فيه(16) طائفة، فقال(17) ابن سيرين: رأيتُ أنس بن مالك يُشرف(18) إلى الشَّيء في صلاتِه(19) ينظر إليه. وقال معاوية بن قرَّة: قيل لابن عمر: إنَّ ابن الزبير إذا قام(20) في الصَّلاة لم يتحرَّك ولم يلتفت قال: لكنَّا نتحرك ونلتفتْ، وكان إبراهيم يلحظ يمينًا وشمالًا، وكان ابن مَعْقِل يفعلُه(21).
          وقال عطاء: الالتفات لا يقطع الصَّلاة، وهو قول مالك والكوفيين(22) والأوزاعيِّ. وقال ابن القاسم: وإن التفت بجميع جسدِه لا يقطع الصَّلاة(23). والحجَّة لنا أنَّ النبي صلعم لم يأمر منه بالإعادة حين أخبر أنَّه اختلاس مِن الشيطان، ولو وجبت فيه الإعادة لأمرنا(24) بها لأنَّه بُعث معلمًا، كما أمرَ الأعرابيَّ بالإعادة مرَّة بعد أخرى.


[1] في(م): ((وأتوا)).
[2] في(ق): ((وذلك إذا رمى ببصره)).
[3] في(م) و(ق): ((وترك)).
[4] زاد في(ق) و(م): ((من فعل ذلك فقد)).
[5] زاد في(م): ((اختلاس)).
[6] في(م): ((قال)).
[7] في(ق): ((بأمور)).
[8] في (ص): ((العبد)).
[9] في(م) و(ق): ((اذكر كذا وكذا)).
[10] في(م): ((لمغالبته)).
[11] في (ص): ((أعلام)).
[12] في (ص): ((شغلتني)).
[13] قوله: ((في)) ليس في (م).
[14] في (ص): ((ألدرداء)).
[15] قوله: ((وقال الحكم: مَن تأمَّل مَن يمينِه أو شمالِه في الصَّلاة... وإن التفت عن يمينِه أو شمالِه مضى في الصَّلاة)) ليس في (م) و(ق).
[16] في(م) و(ق): ((في ذلك)).
[17] في(م) و(ق): ((قال)).
[18] في(ق): ((يتشرب)).
[19] في(م) و(ق): ((الصلاة)).
[20] في (ص): ((قدم)).
[21] قوله: ((وكان ابن معقل يفعله)) ليس في (م) و(ق).
[22] في(م) و(ق): ((الصلاة، وبه قال مالك والكوفيون)).
[23] في(م): ((تنقطع صلاته)).
[24] في(م): ((لأمر)).