شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الأذان بعد الفجر

          ░12▒ باب: الأذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ.
          فيه: حَفْصَةُ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْمُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ، وَبَدَا الصُّبْحُ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ(1) خَفِيفَتَيْنِ، / قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلاةُ). [خ¦618]
          وفيه: عَائِشَة(2) قالت: (كَانَ النبي صلعم يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإقَامَةِ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ). [خ¦619]
          وفيه: ابْن عُمَرَ قَالَ النبي صلعم: (إِنَّ بِلالا يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ). [خ¦620]
          الأذان بعد(3) الفجر لا خلاف فيه بين الأمة(4)، وإنَّما اختلفوا في جوازِه قبل الفجر على ما يأتي ذكرُه في الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى(5)، وفيه مواظبة رسول الله صلعم على ركعتي الفجر وتخفيفُه لهما. قال المؤلف: وحديث حفصة قد اختلفت ألفاظُه، فرواه عبد الله بن يوسف التِّنِّيسيُّ عن مالك: (أنَّ رسول الله صلعم كان إذا اعتكف المؤذن للصبح(6))، وخالفه سائر الرواة عن مالك فرووه(7): (أنَّ رسول الله صلعم كان إذا سكت المؤذن عن الأذان بصلاة الصبح)، مكان (اعتكف المؤذن)، وقد رُوي(8) عن عائشة مثل هذا اللفظ: (إذا سكت المؤذن)، وهو وذلك(9) يؤيد رواية الجماعة عن مالك، ذكرَه البخاريُّ في باب: من انتظر الإقامة، بعد هذا. فإن كانت رواية التِّنِّيسيِّ(10) محفوظة ولم تكن غلطًا، فوجه موافقتها للترجمة أن المؤذِّن كان يعتكف للصبح، أي: ينتظر الصبح لكي يؤذِّن، والعكوف في اللغة: الإقامة، فكان يرقُب طلوع الفجر ليؤذِّن في أوَّلِه، فإذا طلع الفجر أذَّن، فحينئذٍ كان يركع النبي صلعم ركعتي الفجر قبل أن تُقام الصلاة، ويشهد لصحة هذا المعنى رواية الجماعة عن مالك: ((كان إذا سكت المؤذن صلَّى ركعتين خفيفتين))، فدلَّ أنَّ ركوعَه كان متصلًا بأذانِه، ولا يجوز أن يكون ركوعُه إلا بعد الفجر، فكذلك كان(11) الأذان بعد الفجر، و على هذا المعنى حملَه البخاريُّ، ولذلك ترجم له باب: الأذان بعد الفجر، وأردف عليه حديث عائشة: ((أنَّ النبيَّ صلعم كان يصلي ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح))، ليدلَّ على(12) أنَّ هذا النداء(13) كان بعد الفجر. فمن أنكر هذا لزمَه أن يقول بأن(14) صلاة الصبح لم يكن يؤذِّن لها بعد الفجر، وهذا غير سائغ من القول. وأمَّا أذان ابن(15) أمِّ مكتوم فقد اختلف العلماء في تأويلِه، فقال ابن حبيب: ليس معنى قولِه: ((أصبحت أصبحت)) إفصاحًا بالصبح على معنى أنَّ الصبح قد انفجر وظهر، ولكنَّه على معنى التحذير من إطلاعِه والتحضيض له على النداء(16) بالأذان خيفة انفجارِه، ومثل هذا قال أبو محمد الأصيليُّ، وأبو جعفر الداوديُّ، وسائر المالكيين، وقالوا: معنى قولِه: ((أصبحت أصبحت)) قارب(17) الصباح كما قال الله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}[البقرة:234]، أي قاربن(18) ذلك؛ لأنَّه إذا انقضى أجلها وتمت عدَّتها فلا سبيل لزوجها إلى مراجعتها وقد انقضت عدَّتها، قالوا: ولو كان أذان ابن أم مكتوم بعد الفجر لم يجز أن يُؤمروا بالأكل إلى وقت أذانِه؛ للإجماع أنَّ الصيام واجب من أول الفجر. وأمَّا مذهبُ البخاريِّ في هذا الحديث على ما ترجم له(19) في هذا الباب فإن أذانَه كان بعد طلوع الفجر، والحجة له على ذلك نصٌّ ودليل، فأمَّا الدليل فقولُه ◙: ((إنَّ بلالًا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أمِّ مكتوم))، فلو كان أذان ابن أم مكتوم قبل الفجر لم يكن لقولِه: ((إنَّ بلالًا ينادي بليل)) معنى؛ لأنَّ أذان ابن أمِّ مكتوم أيضًا كذلك هو في الليل، وإنَّما يصحُّ معنى(20) الكلام أن يكون نداء(21) ابن أمِّ مكتوم في غير الليل وفي وقتٍ يحرم(22) فيه الطعام والشراب اللذين(23) كانا مباحين في وقت أذان بلال. وقد رُوي هذا المعنى نصًا في بعض طرق هذا الحديث، ذكرَ(24) البخاريُّ في كتاب الصيام في باب قول النبيِّ صلعم: ((لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال)) من رواية عائشة قالت: ((إن بلالًا كان يؤذن بليل، فقال النبي صلعم: كلوا واشربوا حتَّى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنَّه لا يؤذن حتى يطلع الفجر))، وهذا نصٌّ قاطع للخلاف.
          وأما علة من اعتل أنَّ أذانَه لو كان بعد الفجر لم يجز أن يُؤمروا بالأكل إلى وقت أذانِه للإجماع أنَّ الصيام واجب أول الفجر، فإنَّها علَّة لا توجب فساد معنى في(25) الصيام، وإنَّما كان أذان ابن أم مكتوم علامة لتحريم الأكل لا للتمادي فيه، ولابدَّ أنَّه كان له من يراعي له الوقت ممَّن يقبل قولَه ويثق بصحتِه من(26) وكل بذلك منه. وقد قال ابن القاسم: إنَّ من طلع عليه الفجر وهو يأكل أو يشرب أو يطأ(27) فليُلقِ ما في فيه(28) ولينزل عن امرأتِه، ولا خلاف في الأكل والشرب، وإنَّما اختلفوا في الوطء على ما يأتي ذكرُه في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى، ولم يكن الصحابة ♥ / ليخفى عليهم إيقاع الأكل في غير وقتِه فيزاحمون به أذان ابن أمِّ مكتوم، بل كانوا أحوطَ لدينهم وأشدَّ تحرزًا(29)، وقد بيَّن ذلك(30) ما رواه شعبة، عن خُبَيْب(31) بن عبد الرحمن، عن عمَّتِه أنيسة، وكانت قد حجَّت مع رسول الله صلعم ((أنّه كان إذا نزل بلال وأراد ابن أمِّ مكتوم أن يصعد تعلَّقوا به، وقالوا: كما أنت حتَّى نتسحَّر)).


[1] في (ق): ((للصبح قبل بدا الصبح فصلي ركعتين)).
[2] زاد في (ص): ((أيضًا)).
[3] في (ق): ((عند)).
[4] في (ص): ((الأئمة)).
[5] قوله: ((تعالى)) ليس في(ق).
[6] قوله: ((كان إذا اعتكف المؤذن للصبح)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((فرووه)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((وروي)).
[9] قوله: ((وذلك)) ليس في (ص).
[10] زاد في (ص): ((عن مالك)).
[11] قوله: ((كان)) ليس في (ق).
[12] قوله: ((على)) ليس في (ص).
[13] قوله: ((النداء)) ليس في (م)، و هي مثبتة من (ق).
[14] في (ق) و(ص): ((أن)).
[15] في (م): ((ابن)) تكرر.
[16] في (ق): ((البدار)).
[17] في (ق): ((أي قاربت)), في (ص): ((قاربت)).
[18] في (ص): ((يريد إذا قاربن)).
[19] في (ق) و(ص): ((به)).
[20] قوله: ((معنى)) ليس في (ص).
[21] في (ق): ((أذان)).
[22] في (ق): ((تحريم)).
[23] في (ق): ((الذان)), في (ص): ((اللذان)).
[24] في (ق) و(ص): ((ذكره)).
[25] قوله: ((في)) ليس في (ص).
[26] في (ق): ((ممن)).
[27] في (ق): ((وهو يأكل أو يشرب)), في (ص): ((وهو يأكل أو يجامع)).
[28] في (ق): ((فمه)).
[29] زاد في (ص): ((من ذلك)).
[30] في (ص): ((هذا)).
[31] في (ق): ((حبيب)).