شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب السجود على سبعة أعظم

          ░133▒ باب: السُّجُودِ على سَبْعَةِ أعظم.
          فيه: ابْن عَبَّاس: (أُمِرَ النبيُّ صلعم أَنْ يَسْجُدَ على سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلا يَكُفَّ شَعَرًا وَلا ثَوْبًا: الْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ). [خ¦809]
          ورواه عبدالله(1) بن طَاوُسٍ عن أبيه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: (قَالَ رسول الله صلعم: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ على سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: على الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ على أَنْفِهِ، وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلا يكف الشَّعَرَ وَالثِّيَابَ)(2). [خ¦810]
          وفيه: الْبَرَاءُ قَالَ: (كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النبيِّ صلعم فَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ(3)، حَتَّى يَضَعَ النَّبِيُّ صلعم جَبْهَتَهُ على الأرْضِ). [خ¦811]
          اختلف العلماء(4) فيما يجزئ السجود عليه من الآراب السبعة بعد إجماعهم(5) أنَّ السجود على الوجه(6) فريضة، فقالت طائفة: إذا سجد على جبهتِه دون أنفِه أجزأه، رُوي ذلك عن ابن عمر وعطاء(7) وطاوس والحسن وابن سيرين والقاسم وسالم والشَّعبيِّ والزهريِّ، وهو قول مالك وأبي يوسف ومحمد والشافعيِّ في أحد قوليه، وأبي ثور والمستحبُّ عندهم أن يسجد على أنفِه مع جبهتِه.
          وقالت طائفة: يجزئه أن يسجد على أنفِه دون جبهتِه، هذا قول أبي حنيفة، ورُوي مثلُه عن طاوس وابن سيرين، وذكر أبو الفرج عن ابن القاسم مثلَه. وأوجب قوم من أهل الحديث السجود على الأنف والجبهة(8) جميعًا، رُوي ذلك عن النَّخَعِيِّ وعكرمة وابن أبي ليلى وسعيد بن جبير(9)، وهو قول أحمد وطائفة، وهو مذهب ابن حبيب، وقال ابن عباس: من لم يضع أنفَه في الأرض لم(10) يصلِّ.
          وقالت طائفة: لا يجزئه إن ترك السجود على شيء من(11) الأعضاء السبعة، وهو أحد قولي الشافعيِّ، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مذهب ابن حبيب، وأظنُّ(12) البخاريَّ مال إلى هذا القول، وحجَّتُه(13) حديث ابن عباس أنَّ النبيَّ صلعم أمر أن يُسجد على سبعة أعضاء، فلا يجزئ السجود على بعضها إلا بدلالة. وحجَّة من أوجب السجود على الجبهة والأنف جميعًا أنَّه قد رُوي في بعض طرق هذا الحديث: ((أُمرت أن أسجد على سبعة أعضاء، منها الوجه)) فلا يخصَّ(14) بالجبهة دون الأنف.
          وبهذا الحديث احتجَّ أبو حنيفة في أنَّه يجزئ عنده السجود على الأنف خاصَّة، وقال: ذكرُه للوجه يدلُّ على أنّه أيُّ شيء وضع منه أجزأه(15)، وإذا جاز عند من خالفنا الاقتصار على الجبهة دون الأنف جاز الاقتصار على الأنف دون الجبهة لأنَّه إذا سجد على أنفِه قيل(16): قد سجد على وجهِه، كما إذا اقتصر على جبهتِه.
          وحجَّة أهل المقالة الأولى أنَّ الأحاديث إنَّما ذُكر فيها الجبهة ولم يُذكر الأنف، فدلَّ على(17) أنَّ الجبهة تجزئ، وأن الأنف تبع.
          فإن قيل: فقد(18) روى ابن طاوس، عن أبيه في هذا الحديث أنَّه صلعم قال(19): (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة، وأشار بيِده على أنفِه).
          قال المُهَلَّب: فالجواب أنَّ الأنف غير مشترط(20) في ذلك لأنَّه إنما أشار بيدِه على أنفِه إلى جبهتِه، فجعل الأنف تبعًا للجبهة، ولم يقل إلى أنفِه.
          قال ابن القصَّار: وإجماع الأعصار حجَّة، ووجدنا عصر التابعين على قولين: فمنهم من أوجب السجود على الجبهة والأنف، ومنهم من جوَّز الاقتصار على الجبهة، فمن جوَّز الاقتصار على الأنف دون الجبهة خرج عن إجماعهم، قال(21): ويُقال لمن أوجب السجود على الآراب السبعة: إنَّ الله تعالى ذكر السجود في مواضع من كتابِه، فلم يذكر فيها غير الوجه، فقال: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ}[الإسراء:109]، وقال: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}[الفتح:29].
          وقال ◙: ((سجد وجهي للذي خلقَه(22) وشقَّ سمعَه وبصرَه))، فلم يذكر غير الوجه، وقال للأعرابي الذي علَّمَه: ((مكِّن جبهتك من الأرض))، ولم يذكر ركبتيه ولا رجليه، ولو كان حكم السجود متعلِّقًا(23) بذلك لكان مع العجز عنه ينتقل إلى الإيماء كالرأس، فلما كان مع العجز يقع الإيماء بالرأس حسب، ولا يؤمر بالركبتين والقدمين واليدين، علمنا أنَّ الحكم تعلَّق بالوجه حسب.
          فإن قيل: فقد قال ◙: ((أُمرت أن أسجد على سبعة أعضاء)).
          قيل: لا يمتنع أن يُؤمر / بفعل الشيء ويكون بعضُه مفروضًا وبعضُه مسنونًا، ولا يكون وجوب بعضِه دليلًا(24) على وجوب باقيه، إلَّا بدلالة الجمع(25) بين ذلك، وقد خصَّصناه بدلائل(26) الكتاب والسنَّة.


[1] في (م) و(ق): ((عبيدالله)).
[2] في (م) و(ق): ((ولا نكف الثياب ولا الشعر)).
[3] في (م): ((لم يحن منا أحد ظهره)).
[4] قوله: ((العلماء)) ليس في (م).
[5] زاد في (م) و(ق): ((على)).
[6] في (ص): ((الأرض)).
[7] في (م) و(ق): ((وعن عطاء)).
[8] في (م) و(ق): ((على الجبهة والأنف)).
[9] في (م) و(ق): ((وعكرمة وسعيد بن جبير وابن أبي ليلى)).
[10] في (م) و(ق): ((أنفه بالأرض فلم)).
[11] قوله: ((شيء من)) ليس في (م).
[12] في (م) و(ق): ((وبه قال إسحاق وأظن)).
[13] زاد في (م) و(ق): ((ظاهر)).
[14] في (م) و(ق): ((يختص)).
[15] زاد في (م) و(ق): ((قالوا)).
[16] زاد في (م): ((إنه)).
[17] قوله: ((على)) ليس في (م) و(ق).
[18] في (م): ((قد)).
[19] في (م): ((أنه قال ◙)).
[20] في (ق): ((مشترك)).
[21] قوله: ((قال)) ليس في (م) و(ق).
[22] زاد في (م): ((وصوره)).
[23] قوله: ((متعلقًا)) ليس في (م).
[24] في (م) و(ق): ((دالًّا)).
[25] في (م): ((تجمع)).
[26] في (م): ((بدليل)).