شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء

          ░83▒ باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ مع التَّكْبِيرَةِ الأولَى في الافْتِتَاحِ سواءً.
          فيه: ابْن عمر: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاة، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ). [خ¦735]
          وترجم له باب: رفع اليدين إذا كبَّر وإذا ركع وإذا رفع. وترجم له: إلى أين يرفع يديه. وقال أبو حميد(1): رفع النبيُّ صلعم يديه حذو منكبيه.
          اختلف العلماء في رفع اليدين في الصَّلاة، فذهبت طائفة إلى رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام(2) خاصَّة، رُوي ذلك عن عمر وعليٍّ وابن مسعود وابن عباس، وهو قول الثوريِّ وأبي حنيفة، ورواه(3) ابن القاسم عن مالك. وذهبتْ طائفة إلى رفع اليدين عند كلِّ رفعٍ وخفضٍ، قال عطاء: رأيتُ أبا سعيد الخدريَّ وابن عمر وابن عباس وابن الزبير، يرفعون أيديهم عند الافتتاح وعند الركوع وعند رفع الرأس مِنه(4)، وكان أنس يفعلُه، وفعلَه أبو(5) حميد الساعديُّ(6) في عشرة من الصحابة(7)، وهو قول الأوزاعيِّ، رواه ابن وهب وأبو مصعب عن مالك، وإليه ذهب الشافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجُّوا بحديث ابن عمر.
          واحتج أهل المقالة الأولى بما رواه سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال: ((كان النبيُّ صلعم إذا كبَّر لافتتاح الصَّلاة رفع يديه، ثمَّ لا يعود(8)))، وبما رواه(9) سفيان عن عاصم بن كليب / عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن عبدالله بن مسعود، ((أنَّ النبيَّ صلعم كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثمَّ لا يعود)).
          قالوا: وقد خالف ابن عمر روايتَه في ذلك عن النبي صلعم. قال الطحاوي: وذلك ما حدَّثنا ابن أبي داود، حدَّثنا أحمد بن يونس، حدَّثنا أبو بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد قال: صلُّيت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلَّا في التكبيرة الأولى مِن الصَّلاة خاصَّة، فلم يترك ابن عمر الرفع في(10) خفضٍ ورفعٍ، وقد رأى النبي صلعم يفعلُه، إلَّا وقد فهم أنَّ ذلك مِن فعلِه على الإباحة والتخيير، يدلُّ(11) على ذلك ما روى مالك عن أبي جعفر القارئ ونعيم المجمر(12) أنَّهما أخبراه أنَّ أبا هريرة كان يُصلِّي بهم(13) ويكبَّر(14) كلَّما خفضَ ورفع، وكان يرفع يديه حين يفتتح الصَّلاة، ويقول: والله إنِّي لأشبهكم صلاة رسول(15) الله صلعم، فلمَّا رُوي هذا كلُّه عن النبي صلعم لم يكن في ذلك شيء أولى من حمل الآثار على الإباحة إن لم يثبت فيها النسخ.
          والدليل على ذلك أنَّ مَن رفع لم يُنكر عليه(16) مَن لم يرفع، غير أنَّه يُرجَّح(17) القول بفعل(18) الخليفتين بعد النبيِّ صلعم عمر وعليّ بن أبي طالب ☻، وإن كان قد اختُلف فيه(19) عن عليٍّ، فلم يُختلف فيه عن عمر.
          قال الطحاويُّ: بل قد(20) ثبت ذلك عنه، أفترى عمر خفيَ عليه أنَّ النبي صلعم كان يرفع يديه في الركوع(21)، وعلم ذلك مَن هو دونَه أو مَن هو معَه يراه يفعل غير ما كان(22) رسول الله صلعم يفعلُه ولا(23) يُنكر ذلك عليه؟ هذا محالٌ، فهذا وجُهه(24) مِن طريق الآثار.
          قال الطحاويُّ: وأما وجهه مِن طريق النظر، فإنّهم أجمعوا أنَّ تكبيرة الافتتاح معها رفعٌ، وأنَّ التكبير بين السجدتين لا رفعَ معَه(25)، واختلفوا في تكبيرة النهوض وتكبيرة الرفع(26)، فقال قوم: حكمها حكم تكبيرة الافتتاح في الرفع، وقال آخرون: حكمها حكم التكبير بين السجدتين في أنَّه لا رفع فيهما كما لا رفع فيها، ورأينا تكبيرة(27) الافتتاح مِن صلب الصَّلاة، لا(28) تجزئ الصَّلاة إلَّا بإصابتها، فرأينا(29) التكبير بين السجدتين(30) ليس(31) كذلك؛ لأنَّها لو تركها تارك لم تفسدْ صلاتُه، فأشبَه(32) تكبيرَ الركوع(33) في ذلك لإجماعهم أنَّ مَن ترك تكبير الركوع والسجود فصلاته تامَّة، فكانتا كهي في أنَّه(34) لا رفع فيهما كما لا رفع فيها.
          قال المُهَلَّب: ومعنى(35) رفع اليدين في افتتاح الصَّلاة إنَّما هو عَلم للتكبير ليرى حركة اليدين مَن لم(36) يسمع التكبير، فيعرف أنَّ الإمام كبَّر، فيوقع إحرامَه بعد إمامِه، وأمَّا غير ذلك مِن التكبير فهو بحركات فيستوي الناس كلُّهم فيها.
          واختلفوا إلى أين يرفع المكبِّر يديه، فقال مالكٌ: يرفعهما حذو منكبيه، وهو قول الشافعيِّ وأحمد وإسحاق، واحتجُّوا بحديث ابن عمر، وقال أبو حنيفة: يرفع يديه حذو أذنيه، واحتجُّوا بما رواه سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن ابن(37) أبي ليلى عن البراء بن عازب قال: ((كان النبي صلعم إذا كبَّر للافتتاح رفع يديه حتَّى تكون إبهاماه قريبًا مِن شحمتي(38) أذنيه))، ورواه مالك بن الحويرث ووائل بن حجرٍ عن النبي صلعم.
          قال ابن القصَّار: فيُحمل حديث ابن عمر على الاختيار وحديث البراء على الجواز. وقال الطحاويُّ: إنَّما كان الرفع إلى المنكبين في حديث ابن عمر وقت كانت يداه في ثيابِه بدليل ما رواه شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجرٍ قال: ((أتيت النبيَّ صلعم، فرأيتُه يرفع يديه حذاءَ أذنيه إذا كبَّر، ثمَّ أتيتُه(39) مِن العام المقبل وعليهم الأكسية والبرانس، فكانوا يرفعون أيديهم فيها، وأشار شريك إلى صدرِه))، فأخبر وائل أنَّ رفعهم إلى مناكبهم إنَّما كان لأنَّ أيديَهم كانت في ثيابهم، وأنَّ رفعهم(40) إلى آذانهم كان حين كانت أيديهم(41) بادية، ولم يَجزْ أن يُجعل حديث ابن عمر وما أشبهَه، الذي فيه الرفع إلى المنكبين، كان واليدان باديتان، لئلَّا تتضادَّ الآثار، وحملُها على الاتِّفاق أولى، ويكون حديث وائل مِن رفعِه إلى أذنيه في غير(42) حال البرد.


[1] زاد في(م) و(ق): ((في أصحابه)).
[2] في (ق) و(م) و(ص): ((الافتتاح)).
[3] في(م) و(ق): ((ورواية)).
[4] في(م) و(ق): ((من الركوع)).
[5] في(م): ((ابن)).
[6] قوله: ((الساعدي)) ليس في (م) و(ق).
[7] في(م): ((أصحابه)).
[8] في(م): ((يعوده)).
[9] في(م) و(ق): ((روى)).
[10] زاد في(م) و(ق): ((كل)).
[11] في (ق): ((يرد)).
[12] قوله: ((المجمر)) ليس في (م).
[13] في(م) و(ق): ((لهم)).
[14] في(م) و(ق): ((فيكبر)).
[15] في (ق) و(م) و(ص): ((برسول)).
[16] في(م) و(ق): ((على)).
[17] في(م): ((يترجح)).
[18] في(م) و(ق): ((القول الأول لفعل)).
[19] قوله: ((فيه)) ليس في (ق).
[20] قوله: ((قد)) ليس في (م)،و قوله: ((بل قد)) ليس في (ق).
[21] زاد في(م) و(ق): ((والسجود)).
[22] في(م): ((رأى)).
[23] في(ق): ((ثم لا)).
[24] في(م) و(ق): ((وجه)).
[25] في(م) و(ق): ((معها)).
[26] في(م) و(ق): ((الركوع)).
[27] في(م): ((تكبير)).
[28] في(م): ((ولا)).
[29] في(م): ((ورأينا)).
[30] قوله: ((في أنَّه لا رفع فيهما كما لا رفع فيها، ورأينا تكبيرة الافتتاح مِن صلب الصَّلاة، لا تجزئ الصَّلاة إلَّا بإصابتها، فرأينا التكبير بين السجدتين)) ليس في (ق).
[31] في(ق): ((ليست)).
[32] في(م): ((فأشبهت)).
[33] زاد في(م) و(ق): ((والسجود)).
[34] في(م) و(ق): ((أن)).
[35] في(م): ((في معنى)).
[36] في(م): ((لا)).
[37] قوله: ((ابن)) ليس في (م).
[38] في(ق): ((شحمة)).
[39] في(ق): ((رأيته)).
[40] زاد في(م): ((أيديهم)).
[41] قوله: ((كانت في ثيابهم، وأنَّ رفعهم إلى آذانهم كان حين كانت أيديهم)) ليس في (ق).
[42] في(ق): ((عسر)).