شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب وجوب صلاة الجماعة

          ░29▒ باب: وُجُوبِ صَلاةِ الْجَمَاعَةِ.
          وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ الْعِشَاءِ فِي(1) الْجَمَاعَةِ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا.
          فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: (قال النبي صلعم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ(2) آمُرَ بِحَطَبٍ ليُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ(3)، ثُمَّ أُخَالِفَ إلى رِجَالٍ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ الْعِشَاءَ). [خ¦644]
          قوله(4)◙: (لقد هممت أن آمر بحطب ليُحطب(5))، دليل(6) على تأكيد الجماعة وعظيم أمرها، وقد أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات(7) بقولِه تعالى: {حَافِظُواْ على الصَّلَوَاتِ}[البقرة:238]، ومن تمام محافظتها صلاتها في جماعة. وأجمع الفقهاء أنَّ الجماعة في الصلوات سنَّة إلَّا أهل الظاهر فإنَّها عندهم فريضة، واحتجُّوا بهذا الحديث وقالوا: هي كلُّ صلاة. واختلفوا(8) في الصلاة التي همَّ النبيُّ صلعم بأن يأمر بحطب فيحرقون(9) رجل من تخلَّفَ عنها، فقالت طائفة: هي صلاة العشاء واحتجّوا بما رواه ابن وهب / عن ابن(10) أبي ذئب عن عجلان(11) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: ((لينتهين رجال ممن حول المسجد لا يشهدون العِشاء، أو لأحرقنَّ حول بيوتهم))، ويشهد لهذا القول قولُه صلعم: ((لو يعلم أحدهم أنَّه يجد عظمًا سمينًا، لشهد العشاء))، هذا قول سعيد بن المسيَّب.
          وقال آخرون: هي الجمعة، رواه أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبيِّ صلعم قال: ((هي الجمعة))(12)، وهو قول الحسن البصريِّ وقالَه يحيى(13) بن معين: أنَّ الحديث في الإحراق على من تخلَّف عن النبي صلعم: يوم(14) الجمعة لا في غيرها. وممَّا يدلُّ أنَّ صلاة الجماعة سنة ما رُوي عن ابن مسعود أنَّه قال: ((عليكم بالصلوات الخمس حيث ينادى بهنَّ، فإنهنَّ من سنن نبيِّكم، ولو تركتم سنَّتَه(15) لضللتم، ولقد عهدتنا(16)، وإنَّ الرجل ليُهادى بين رجلين(17) حتَّى يُقام في الصف))، وممَّا يدلَّ على(18) أنَّها سنَّة أنَّ النبي صلعم لم يقل لهم حين توعدهم بالإحراق عليهم: أنَّه من تخلَّف عن الجماعة فلا تجزئه صلاتُه، ولو كانت فرضًا ما سكت عن ذلك؛ لأنَّ البيان منه لأمِّتِه فرضٌ عليه. قال(19) المُهَلَّب: وقد قيل إنَّ هذا الحديث أُريد به المنافقون، وإليهم توجه الوعيد فيه(20)، واحتجَّ(21) قائل ذلك بأنَّ النبي صلعم أقسم(22) أنَّه لو يعلم أحدهم أنَّه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء، وليس هذا من صفات المؤمنين، وقيل: إنَّ الحديث(23) في المؤمنين والوعيد إليهم متوجِّه، والدليل على ذلك قصَّة كعب بن مالك وصاحبيه، وأنَّ الله سبحانَه وبَّخهم بذلك ولم يُوبِّخ المنافقين ولا ذكرهم، ولا عني بإخراجهم إلى الصلاة ولا التفت إلى شيء(24) من أمرهم، بل كان معرضًا عنهم عالمًا بسوء طويتهم، فكيف كان يعنى بتأديبهم(25) على ترك الصلاة في الجماعة، وهو يعلم أنَّه لا صلاة لهم، ولا يلزمُه التهمُّم بأمرهم، لما كان أطلعَه الله تعالى عليه من فساد نياتهم.
          والعِرْقُ: العظم إذا كان عليه لحم، وقد تَعَرَّقْتُ العظم واعترقْتُه، وعَرَقْتُه، وأعرقه(26) عرقًا: أكلت ما عليه، ورجل معروق، ومعترق: خفيف اللحم(27)، فإذا(28) كان العظم لا لحم عليه(29) فهو عِرَاق، من كتاب «العين»(30). وفيه: العقوبة في الأموال على ترك السنن؛ لأنَّ النبيَّ صلعم لم يهمَّ من الإحراق إلَّا بما يجوز له فعلُه، وسيأتي هذا الحديث في أبواب الإشخاص والملازمة، وفي كتاب الأحكام، وترجم(31) له فيها(32): باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت، وفيه شيء من الكلام على حسب ما يقتضيه التبويب.
          وأمَّا ضربُه ◙ المثل بالعظم السمين والمرماتين، فإنَّه أراد الشيء الحقير، وقال أبو عبيد(33):المرماتين ما بين ظلفي(34) الشاة، وهذا حرفٌ لا أدري ما وجهُه. وقال الحربيُّ: وهو قول الخليل، ولا أحسب هذا معنى الحديث، ولكنَّه كما أخبرني أبو(35) نصر عن الأصمعيِّ قال: المرماة: سهم الهدف، ويصدِّق هذا ما حدَّثني به عبيد الله(36) بن عُمَر عن معاذ عن أبيه عن قَتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة أنَّ النبي صلعم قال: ((ولو(37) أنَّ أحدكم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان(38)، لفعل))، وقال أبو عَمْرو: مرماة ومرام، وهي الدقاق من السهام المستوية.


[1] في (ق): ((مع)).
[2] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[3] قوله: ((ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ)) ليس في (م) و(ق).
[4] في (ص): ((وقوله)).
[5] في (م) و(ق): ((فيحطب)).
[6] في (م) و(ق): ((يدلُّ)).
[7] في (ق): ((على الصلاة)).
[8] في (م) و(ق): ((وقد اختلفوا)).
[9] في (م) و(ق) و(ص): ((فيحرق)).
[10] قوله: ((ابن)) ليس في (م).
[11] زاد في (م) و(ق) و(ص): ((مولى المشمعل)).
[12] قوله: ((رواه أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبيِّ صلعم قال:هي الجمعة)) ليس في (ص).
[13] قوله: ((يحيى)) ليس في (ق).
[14] في (م) و(ق): ((في)).
[15] في (م): ((سنة)).
[16] في (م): ((عهدتها)).
[17] في (م) و(ص): ((الرجلين)).
[18] قوله: ((على)) ليس في (ق).
[19] في (م) و(ق): ((وقال)).
[20] قوله: ((فيه)) ليس في (ص).
[21] في (ص): ((وبه احتج)).
[22] قوله: ((أقسم)) ليس في (ص).
[23] زاد في (م) و(ق) و(ص): ((هو)).
[24] في (م) و(ق): ((التفت شيئًا)).
[25] في (م) و(ق): ((بتأدُّبهم)).
[26] في (م) و(ق): ((العظم واعترقته أعرقه)).
[27] قوله: ((اللحم)) ليس في (ق).
[28] في (م) و(ق): ((فإن)).
[29] في (م): ((فيه)).
[30] قوله: ((والعِرْقُ: العظم إذا كان عليه لحم، وقد تَعَرَّقْتُ العظم واعترقْتُه، وعَرَقْتُه، وأعرقه عرقًا: أكلت ما عليه، ورجل معروق، ومعترق: خفيف اللحم، فإذا كان العظم لا لحم عليه فهو عِرَاق، من كتاب العين)) جاء في (م) و(ق) بعد قوله: ((وأما ضربه ◙ المثل بالعظم السمين والمرماتين فإنه أراد الشيء الحقير)).
[31] في (م) و(ق): ((ترجم)).
[32] في (م) و(ق) و(ص): ((فيهما)).
[33] زاد في (م) و(ق): ((يقال إن)).
[34] في (ص): ((ضلعي)).
[35] في (م): ((ابن)).
[36] في (ص): ((عبد الله)).
[37] في (م) و(ق): ((لو)).
[38] في (ق): ((عظمان)).