شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب حد المريض أن يشهد الجماعة

          ░39▒ باب حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ.
          فيه عَائِشَة أَنه ذُكَر عندها الْمُوَاظَبَةُ على الصَّلاةِ وَالتَّعْظِيمُ لَهَا، فقَالَتْ: (لَمَّا مَرِضَ النبي صلعم(1)، مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَحَضَرَتِ(2) الصَّلاةُ، فَأُذِّنَ(3) فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ(4) بِالنَّاسِ، فَقلَت(5) لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ، فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ(6): إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ(7)، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، فَصَلَّى، فَوَجَدَ النبيُّ صلعم مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنَ الْوَجَعِ(8)، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلعم أَنْ مَكَانَكَ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إلى جَنْبِهِ). فقِيلَ لِلأعْمَشِ(9): (فكَانَ النَّبِيُّ صلعم يُصَلِّي(10)، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاتِهِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ(11) بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ؟، فَقَالَ بِرَأْسِهِ: نَعَمْ(12)). [خ¦664]
          قال المؤلف:(13) (باب حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ)، معناه باب حدَّة المريض وحرصِه على شهود الجماعة، كما قال عُمَر بن الخطاب في أبي بكر الصِّدِّيق ☻: وكنت أداري منه بعض الحدِّ، يعني بعض الحدَّة، والمراد بهذا الحديث(14) الحضُّ على شهود الجماعة والمحافظة عليها.
          قال(15) أبو عبد الله بن أبي صُفرة: وفيه من الفقه جواز الأخذ بالشِّدَّة لمن جازت له الرخصة لأن النبي صلعم كان له أن يتخلَّف عن الجماعة لعذر(16) المرض(17)، فلمَّا تحامل على نفسِه وخرج بين رجلين تخطُّ رجلاه الأرض، دلَّ على فضل الشدَّة على الرخصة(18)، ورغَّب أمَّتَه ◙ في شهود الجماعات لما لهم فيها من عظيم الأجر، ولئلَّا يعذر أحد منهم نفسَه في التخلُّف عنها ما أمكنَته(19) وقدر عليها، إذ لم يعذر نفسه صلعم، ولم يرخَّص لها في حال عجزِه عن الاستقلال على قدميه مع علمِه أنَّ الله تعالى / قد غفر له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر، وبذلك عمل السلف الصالحون، فكان(20) الربيع بن خُثَيم يخرج إلى الصلاة يُهادى بين رجلين وكان أصابَه الفالج، فيُقال له: إنَّك لفي عذر، فيقول: أجل، ولكنِّي أسمع المؤذن يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فمن سمعها فليأتها ولو حبوًا.
          وكان أبو عبد الرحمن السلميُّ يُحمل وهو مريض إلى المسجد. وقال سفيان: كان سويد بن أبي(21) غفلة(22) ابن ستٍّ(23) وعشرين ومائة سنة يخرج إلى الصلاة. وكان أبو إسحاق الهمدانيُّ يُهادى إلى المسجد، فإذا فرغ من صلاتِه لم يقدر أن ينهض حتَّى يُقام. وقال سعيد بن المسيَّب: ما أَذَّن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلَّا وأنا في المسجد.
          وقول عائشة: (إنَّ أَبَا بَكْر رَجُلٌ(24) أَسِيْف)، يعني: سريع الحزن والبكاء، والأسف عند العرب: شدَّة الحزن والتندُّم، يُقال منه: أسف فلان على كذا يأسف، إذا اشتدَّ حزنُه، وهو رجل أسيف وأسُوف، ومنه قول يعقوب(25): {يَا أَسَفَى على يُوسُفَ}[يوسف:84]، يعني: يا حزنًا ويا جزعًا(26) توجُّعًا لفقدِه، وقيل(27): قال الخُزَاعِي: الأسيف الضعيف من الرجال في بطشِه، وأمَّا الأسِفُ فهو الغضبان المتلهِّف، كما قال الله تعالى: {ولَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا}(28)[الأعراف:150].


[1] زاد في (ق) و (م): ((واشتدَّ)).
[2] في (ق): ((فحضروا)).
[3] قوله: ((فأذن)) ليس في (م) و(ق).
[4] في (م) و(ق): ((يصل)).
[5] في (م) و(ق): ((فقيل)).
[6] في (م) و(ق): ((أن يصلي للناس وأعادوا ثلاثًا فقال)).
[7] في (م) و(ق): ((يصل للناس)).
[8] في (م) و(ق): ((بين رجلين تخط رجلاه من الوجع)).
[9] قوله: ((فقيل للأعمش)) ليس في (م).
[10] في (م): ((فكان يصلي النبي صلعم))،و قوله: ((أَنْ مَكَانَكَ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إلى جَنْبِهِ)). فقِيلَ لِلأعْمَشِ: ((فكَانَ النَّبِيُّ صلعم يُصَلِّي)) ليس في (ق).
[11] قوله: ((يصلون)) ليس في (م) و(ق).
[12] قوله: ((فقال برأسه نعم)) ليس في (م) و(ق).
[13] زاد في (ص): ((قوله)).
[14] في (م) و(ق) و(ص): ((الباب)).
[15] في (م) و(ق): ((وقال)).
[16] في (م): ((بعذر)).
[17] في (ص): ((المريض)).
[18] زاد في (م) و(ق): ((قال الطبري)).
[19] في (م) و(ص): ((أمكنه)).
[20] في (م): ((وكان)).
[21] قوله: ((أبي)) ليس في(ق) و(م) و(ص).
[22] في (ق): ((علقمة)) وأشار أن في نسخة ((غفلة)).
[23] في (م): ((سبع)).
[24] قوله: ((رجل)) ليس في (م) و(ق).
[25] زاد في (ق): ((صلعم)).
[26] في (م) و(ق): ((يا حزنًا عليه ويا جزعاه)).
[27] في (م) و(ق): ((وقال أبو عمر الشيباني)).
[28] في (م): ((قال الله تعالى: فرجع)).