شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التسليم

          ░152▒ باب: التَّسْلِيمِ.
          فيه: أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم إِذَا سَلَّمَ، قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ). [خ¦837]
          قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأُرَى _والله أعلم_ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُدَ(1) النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنِ انْصَرَفَ مِنَ الْقَوْمِ.
          اختلف العلماء في وجوب التسليم، فذهب جماعة من العلماء إلى أنَّ التسليم(2) فرض لا يصحُّ الخروج من الصلاة إلَّا به، وممَّن أوجب ذلك ابن مسعود، قال: مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، ذكرَه الطبريُّ، وبه قال عطاء والزهريُّ ومالك والشافعيُّ وغيرهم.
          وذهب أبو حنيفة والثوريُّ والأوزاعيُّ إلى أنَّ السلام سنَّة، وأنَّ الصلاة يصحُّ الخروج منها بغير سلام، واحتجوا بأنَّ النبي صلعم قال لابن مسعود حين علمَّه التشهُّد: ((فإذا فعلت ذلك فقد تمَّت صلاتك)). قالوا: ولم يذكر له(3) السلام، قالوا: ورُوي عن عليِّ بن أبي طالب ☺ أنَّه قال: إذا رفع رأسَه من آخر سجدة ثمَّ أحدث فقد تمَّت صلاتُه، وعن سعيد بن المسيَّب والنخعيِّ مثلُه. واحتجَّ عليهم أهل المقالة الأولى بأنَّ قولَه صلعم لابن مسعود: ((فإذا فعلت ذلك فقد تمَّت صلاتك))، يحتمل أن يكون معناه: إذا سَلَّمْت، بدليل سلامِه ◙ في كلِّ صلواتِه، وتعليمِه ذلك لأمَّتِه عملًا ومعاينة. /
          ويحتمل أن يكون معناه: قد(4) قاربت التمام، كما قال تعالى في المطلقات: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}[الطلاق:2]، وهذا معناه: قاربنْ بلوغ أجلهنَّ لأنهنَّ لو بلغنَ الأجل بانقضاء العدة لم يكن لأزواجهنِّ إمساكهنَّ بالمراجعة لهنَّ، وقد انقضت عدتهنَّ.
          وقال الطبريُّ: السلام من الأعمال التي علَّم النبي صلعم أمَّتَه العمل به كما علَّمهم التحريم فيها والقراءة، فمن ضيَّع ذلك أو تركَه عامدًا فهو مُفسِدٌ؛ لأنَّه(5) ضيَّع ما قامت به(6) الحجة بجواز الصلاة معه، وقد روى الثوريُّ عن عبدالله بن محمد بن عقيل عن محمَّد ابن الحنفية عن عليٍّ ☺ قال: قال النبيُّ صلعم: ((تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم))، فكما لا يجوز الدخول في الصلاة إلا بالإحرام، فكذلك(7) لا يجوز الخروج منها(8) إلَّا بالسلام. واختلفوا في صفة السلام من الصلاة(9)، فقالت طائفة: يُسلم تسليمتين عن يمينِه وعن يسارِه، رُوي ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر وعليٍّ وابن مسعود وعمار، وروي(10) ذلك(11) عن الشَّعبيِّ وعطاء وعلقمة والأسود، وهو قول الثوريِّ وأبي حنيفة والشافعيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثور، واحتجُّوا بآثار كثيرة رُويت عن النبي صلعم بذلك منها: حديث ابن مسعود وعمار(12) وأبي موسى ووائل بن حجر وأبي حميد الساعديِّ وابن عمر وجابر بن عبدالله(13) وجابر بن سمرة والبراء بن عازب وقبيصة بن ذُؤَيب، وعديّ بن عَميرة الحضرميِّ ويعقوب بن الحصين كلُّهم عن النبي صلعم، أسندها الطبريُّ كلَّها.
          وقالت طائفة: يُسلِّم تسليمة واحدة فقط، رُوي ذلك عن ابن عمر وأنس بن مالك وعائشة وسلمة بن الأكوع، ومن التابعين: سليمان بن يسار وأبي وائل وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن، وهو قول(14) مالك والليث والأوزاعيِّ ودفعوا أحاديث التسليمتين.
          والحجة لهم ما ذكرَه(15) محمَّد(16) بن عبد الحكم عن عبد الرحمن بن مهديٍّ(17) قال: أحاديث التسليمتين لا أصل لها. وقال الأصيليُّ: حديث أم سلمة المذكور في هذا الباب يقتضي تسليمة واحدة، وكذلك حديث ابن بُحَيْنَة وحديث ذي اليدين لأنَّ قول أمِّ سلمة: ((كان النبيُّ صلعم إذا سلم))، يقتضي ظاهرُه أنَّ كلَّ ما وقع(18) عليه اسم السلام(19) يُتحلَّل به من الصلاة.
          قال المُهَلَّب: لما كان السلام تحللًا من الصلاة، وعَلمًا على فراغها دلَّت التسليمة الواحدة على ذلك، وإن كان في التسليمتين(20) كمالًا، فقد مضى العمل بالمدينة في مسجد رسول الله صلعم على تسليمة واحدة، فلا يجب مخالفة ذلك.
          وذكر الطبريُّ قال: حدَّثنا محمد بن مرزوق(21)، قال(22): حدَّثنا حجاج بن نُصَيْر، حدثنا(23) أبو عبيدة(24)، حدَّثنا الحسن ومحمد بن سيرين، قالا: حدَّثنا أنس بن مالك قال: ((صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يسلمون تسليمة واحدة))، وحدَّثنا(25) محمد بن عبدالله الحجريُّ(26)، حدثنا يونس عن جرير بن حازم، عن أيوب عن أنس مثلَه. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: صليت خلف عليِّ بن أبي طالب فسلَّم واحدة، ذكرَه(27) ابن أبي شيبة.
          وقال الطبريُّ: القول في ذلك عندنا أن يُقال: كلا الخبرين الواردين عن النبي صلعم أنه كان يسلم واحدة، وأنه كان يسلم تسليمتين(28) صحيح، وأنه من الأمور التيل كان يفعل هذا مرة وهذا مرة، مُعلم(29) بذلك(30) أمَّتَه أنهم مخيرون في العمل بأي ذلك شاءوا، كرفعِه ◙ يديه في الركوع وإذا رفع رأسَه منه، وتركِه(31) ذلك مرة أخرى، وكجلوسِه في الصلاة على قدمِه اليسرى ونصبِه اليمنى فيها مرة، وإفضائِه بأليتِه إلى الأرض، وإدخالِه قدمَه اليسرى تحت فخذِه اليمنى مرة في أشباهٍ لهذا كثيرة.


[1] في (ق): ((ينفر)).
[2] في (م): ((السلام)).
[3] قوله: ((له)) ليس في (ق).
[4] في (م) و(ق): ((فقد)).
[5] في (م) و(ق): ((مفسد إلا من)).
[6] قوله: ((به)) ليس في (م) و(ق)، وفي (ص): ((له)).
[7] في (م) و(ق): ((كذلك)).
[8] في (م): ((عنها)).
[9] في (ق): ((في الصلاة)).
[10] في (ق): ((روي)).
[11] قوله: ((ذلك)) ليس في (م) و(ق).
[12] زاد في (م) و(ق): ((بن ياسر)).
[13] قوله: ((وجابر بن عبدالله)) ليس في (ق).
[14] في (م) و(ق): ((وبهذا قال)).
[15] في (م): ((ذكر)).
[16] في (ق): ((التسليمتين، ذكر محمد)).
[17] زاد في (م) و(ق): ((أنه)).
[18] في (م) و(ق): ((يقع)).
[19] في (م): ((سلام)).
[20] في (م): ((التسليمتان))، و في (ق): ((وإن كانت التسليمتان)).
[21] في (م): ((مروان)).
[22] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[23] في (م): ((أخبرنا)).
[24] زاد في (م) و(ق): ((الناجي)).
[25] في (م) و(ق): ((وحدثناه)).
[26] في (م): ((الحجري)) غير واضحة، و في (ق): ((المحرمي)).
[27] في (ص): ((وذكره)).
[28] في (ق): ((اثنتين)).
[29] في (م) و(ق): ((معلمًا)).
[30] في (م): ((ذلك)).
[31] في (م): ((وترك)).