شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة

          ░46▒ باب أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ أَحَقُّ بِالإمَامَةِ.
          فيه أَبو مُوسَى، قَالَ(1): (مَرِضَ النَّبِيُّ صلعم فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ(2)، قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ(3) أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، قَالَ: مُري أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَعَادَتْ، فَقَالَ: مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ،(4) فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، فَأَتَاهُ الرسول فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النبي صلعم).
          روتْه(5) عائشة. [خ¦679]
          وأنس. [خ¦680]
          وحمزة الأسلميُّ، عن النبيِّ صلعم. [خ¦682] [خ¦678]
          اختلف العلماء(6) في من أولى بالإمامة، فقالت طائفة: يؤمُّ القوم أعلمهم وأفضلهم(7)، قال عطاء(8): يؤمُّ القوم أفقههم، فإن كانوا في الفقه سواء فأقرؤهم، فإن كانوا في الفقه والقراءة سواء فَأَسَنُّهم.
          قال(9) مالك والأوزاعيُّ والشافعيُّ: يؤمُّ القوم أفقههم، وهو(10) قول أبي ثور. وقال الليث: يؤمُّهم أفضلهم وخيرهم. وقالت طائفة: القارئ أولى من الفقيه، هذا قول(11) الثوريِّ وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق. واحتجُّوا بما رواه الأعمش وشعبة عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضَمْعَجٍ عن أبي مسعود البدريِّ(12)، قال: ((قال رسول الله صلعم: يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسُّنَّة، فإن كانوا في السُّنَّةِ(13) / سواءً فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فأقدمهم إسلامًا))، وزاد فيه شعبة: ((ولا يُؤَم الرجلُ في أهله ولا في سلطانه، ولا يُجلس على تكرمته إلا بإذنه)) والتكرمة: فراشه، قاله إسماعيل بن رجاء(14)، وبما رواه ابن جُريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤمُّ المهاجرين والأنصار في مسجد قباء حين أقبلوا من مكَّة؛ لأنَّه كان أكثرَهم قرآنًا، فيهم أبو سلمة ابن عبد الأسود(15) وعمر بن الخطاب. قالوا: وحديث أبي مسعود معارض لقولِه صلعم: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ)؛ لأنَّه كان فيهم من كان أقرأ منه للقرآن.
          قيل: لا تعارض بينهما بحمد الله، ويُحتمل أن يكون النبيُّ صلعم قال: ((يؤمُّ القوم أقرؤهم)) في أول الإسلام حين كان حُفَّاظ القرآن قليلًا وقت قدم(16) عَمْرو(17) بن سلمة وهو صبيٌّ، للصلاة في مسجد عشيرتِه وفيه الشيوخ، وكان تنكشف عورتُه عند السجود، فدلَّ أنَّ إمامتَه بهم في مثل هذه الحال كانت لعدم من يقرأ من قومِه، ولهذا المعنى كان يؤمُّ سالمٌ المهاجرين والأنصارَ في مسجد قباء، حين أقبلوا من مكَّة مهاجرين، لعدم الحُفَّاظ حينئذٍ. فأمَّا وقت قولِه صلعم: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ) فقد كان تقرَّر الإسلام وكثُر حُفاظ القرآن وتفقَّهوا فيه، فلم يكن الصِّدِّيق ☺ على جلالتِه وثاقب فهمِه وتقدُّمِه في كلِّ خير يتأخَّر عن مساواة القُرَّاء، بل فَضلَهم بعلمِه وتقدَّمهم في كلِّ أمرِه(18)، ألا ترى قول أبي سعيد(19): وكان أبو بكر أعلمنا.
          وقال الطبري: لما استخلف النبيُّ صلعم(20) الصَّدِّيق ☺ على الصلاة بعد إعلامِه لأمَّتِه أنَّ أحقَّهم بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله، صحَّ أنَّه يَوْمَ قَدَّمَهُ(21) للصلاة كان اقرأ أمَّتِه لكتاب الله وأعلمهم وأفضلهم، لأنَّهم كانوا لا يتعلمون شيئًا من القرآن حتَّى يتعلَّموا معانيه وما يُراد به، كما قال ابن مسعود: كان الرجل منَّا إذا تعلَّم عشر آياتٍ لم يجاوزهنَّ حتَّى يتعلَّم(22) معانيهنَّ والعمل بهنَّ.
          ولما كان النبيُّ صلعم لا يستحق أن يتقدَّمَه أحد في الصلاة وجعل ما كان إليه منها بمحضر جميع الصحابة لأبي بكر(23)☺، كان(24) جميع أمور الإسلام تبعًا للصلاة، ولهذا قدَّمَه رسول الله صلعم في حياته وبهذا احتج عمر فقال من تطيب منكم نفسه أن يتقدم أبا بكر وقد قدَّمه رسول الله صلعم للصَّلاة، والصَّلاة لا يقوم بها إلَّا الدعاة ومن إليه السياسة وعقد الخلافة كصلاة الجُمَع والأعياد التي لا يصلح القيام بها إلَّا لمن إليه القيام بأمر الأمَّة وسياسة الرعيَّة.
          وصحَّ أنَّه أفضل الأُمَّة بعدَهُ لقيام الحجَّة بأنَّ(25) أولى البريَّة بعقد الخلافة أفضلهم وأقومهم بالحقِّ وأعدلهم وأوفرهم أمانة وأحسنهم على محجَّة الحقِّ استقامةً، وكذلك كان الصِّدِّيق ☺.
          قال المُهَلَّب: إنْ(26) قال قائل: إنَّ عمر أعلم من أبي بكر، واستدلَّ بحديث الذَّنُوب والذَّنُوبيْن، وفي نزعِه ضعف، قيل: إنَّه(27) ليس كما ظننتَ، إنَّما(28) الضعف في المدَّة التي(29) وليها أبو بكر، لا فيه ولا في علمِه، إنَّما كان(30) الضعف في نشر السنن لقرب مدَّتِه وضعفها عن أن يتمكَّن بتثبيت السنن؛ لأنَّه ابتُلي بارتداد الناس ومقاتلة(31) العرب. وأما مراجعة عائشة وحرصها(32) أن يُستخلف غير أبي بكر، فإنَّما خَشِيَتْ أن يتشاءم الناس بإمامة أبي بكر(33) فيقولون: مُذْ أَمَّنَا هذا فقدنا رسول الله صلعم، وقد رُوي هذا عنها، ♦.


[1] قوله: ((قال)) ليس في (ق).
[2] في(م) و(ق): ((للناس)).
[3] في(م) و(ق): ((لا يستطيع)).
[4] زاد في (ص): ((فعادت, فقال: مري أبا بكر فليصل بالناس)).
[5] في (ق): ((وروته)).
[6] قوله: ((العلماء)) ليس في (م).
[7] في(م) و(ق): ((وأفقههم)).
[8] زاد في(م) و(ق): ((بن أبي رباح: كان يُقال)).
[9] في(م) و(ق): ((وقال)).
[10] في (ق): ((وهذا)).
[11] في (ق): ((هو)).
[12] في(م) و(ق): ((الأنصاري)).
[13] قوله: ((سواءً فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً........صلَّى أبو بكر بعضها، وائتمَّ به أصحابُه)) سقط من (ص).
[14] قوله: ((وزاد فيه شعبة: ((ولا يؤم الرجل في أهله، ولا في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه))، والتكرمة: فراشه، قاله إسماعيل بن رجاء)) ليس في (م) و(ق).
[15] في(م) و(ق): ((الأسد)).
[16] في(م): ((تقديم))، و في (ق): ((تقدم)).
[17] في (ق): ((عمر)).
[18] في(م) صورتها: ((وبزَّهم في كلِّ أمره)).
[19] زاد في(م) و(ق): ((الخدري)).
[20] زاد في(م) و(ق): ((أبا بكر)).
[21] في(م): ((قيامه)).
[22] في(م): ((يعرف)).
[23] زاد في(م) و(ق): ((الصديق)).
[24] في(م): ((كانت)).
[25] في(ق): ((فإن)).
[26] في(م) و(ق): ((فإن)).
[27] قوله: ((إنه)) ليس في (م) و(ق).
[28] في(م): ((وإنما كان)).
[29] صورتها في(ز): ((الذي)).
[30] في(م): ((في علمه فكان الضعف)).
[31] في(ق): ((ومقابلة)).
[32] زاد في(م): ((عن)).
[33] قوله: ((فإنَّما خَشِيَتْ أن يتشاءم الناس بإمامة أبي بكر)) ليس في (ق).