شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة

          ░42▒ باب: إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ.
          وكان ابن عمر يبدأ بالعَشاء. وقال أبو الدرداء: من فقه المرء إقبالُه على حاجتِه حتى يُقبل على صلاتِه وقلبُه فارغ.
          فيه: عَائِشَة، قَالَت: (قَالَ النبيُّ صلعم: إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ، وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَابْدَؤُوا بِالْعَشَاءِ). [خ¦671]
          وفيه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ(1): (إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ، فَابْدَؤُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلاةَ الْمَغْرِبِ، وَلا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ). [خ¦672]
          ورواه ابْنُ عُمَرَ: عن النبيِّ صلعم أيضًا، قَالَ: وكَانَ(2) ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ، وَتُقَامُ الصَّلاةُ، فَلا يَأْتِيهَا حَتَّى يَفْرُغَ منه، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإمَامِ.
          وقال ابْنُ عُمَرَ مرَّةً: قَالَ النبي صلعم: (إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ على الطَّعَامِ فَلا يَعْجَلْ، حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ). [خ¦673]
          اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث: فذكر ابن المنذر أنَّه قال بظاهرِه عُمَر بن الخطاب وابن عمر، وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق. وقال الشافعيُّ: يبدأ بالطعام إذا كانت نفسُه شديدة التوقان إليه، فإن لم يكن كذلك ترك العَشاء، وإتيان الصلاة أحبُّ إلي. وذكر ابن حبيب مثل معناه. وقال ابن المنذر: عن مالك يبدأ بالصلاة إلَّا أن يكون طعامًا خفيفًا(3). وقال أهل الظاهر: لا يجوز لأحدٍ حضر طعامُه بين يديه، وسمع الإقامة، أن يبدأ بالصلاة قبل العَشاء، فإن فعل فصلاتُه باطل(4).
          وحجَّة الذين قالوا يبدأ بالصلاة، أنَّهم حملوا قولَه صلعم: (فَابْدَؤُوا بِالْعَشَاءِ) على الندب لما يُخشى من شغل بَالِه بالأكل فيفارقُه الخشوع، وربَّما نقص من حدود الصلاة، أو سها فيها، وقد بيَّن هذا المعنى أبو الدرداء في قولِه(5): من فقه المرء إقبالُه على طعامِه حتَّى يُقبل على صلاتِه وقلبُه فارغ.
          ولو كان إقبالُه على طعامِه هو الفرض عليه لم يقل فيه: من فقه المرء أن يبدأ به، بل كان يقول: من الواجب عليه اللازم له أن يبدأ به(6)، فبيَّن العلَّة في قولِه صلعم: (ابْدَؤُوا بِالْعَشَاءِ) أنَّها لما يُخاف من شغل البال، وقد رأينا شغل البال في الصلاة لا يُفسدها، ألا ترى أنَّ النبيَّ صلعم صلَّى في جُبة لها عَلَم، فقال: ((خذوها وائتوني بأنبجانية))، فأخبر أنَّ قلبَه(7) اشتغل بالعَلَم ولم تبطل صلاتُه.
          وقال(8) عُمَر بن الخطاب ☺: إنِّي لأجهز جيشي وأنا في الصلاة. وقال النبيُّ صلعم: ((لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول له(9): اذكر كذا، حتَّى يضلَّ الرجل، لا يدري كم صلَّى))، ولم يأمرنا(10) بإعادتها لذلك، وإنَّما استحبَّ(11) أن يكون المصلي فارغ البال من خواطر الدنيا ليتفرَّغ لمناجاة ربِّه ╡.
          وقد اشترط بعض الأنبياء على من يغزو معَه أن لا يَتبعَه مَن مَلَك بُضع امرأة ولم يبنِ بها، ولا من بنى دارًا ولم يُكملها ليتفرغ قلبُه من شواغل الدنيا، فهذا(12) في الغزو، فكيف في الصلاة التي هي أفضل الأعمال، والمصلي واقف بين يدي الله ╡. وقد احتجَّ بهذا الحديث الكوفيون وأحمد وإسحاق في أنَّ وقت المغرب واسع، وقالوا: إن(13) كان لها وقت واحد، ما كان(14) لأحدٍ أن يشتغل فيه بالأكل حتَّى يفوت.


[1] في (م): ((وفيه أنس قال رسول الله صلعم)).
[2] في (ص): ((فكان)).
[3] في (م) و(ق): ((مثل معناه، وقال مالك يبدأ بالصلاة إلا ان يكون طعامًا خفيفًا حكاه بان المنذر عن مالك)).
[4] في (ق) و(ص): ((باطلة)).
[5] في (م): ((بقوله)).
[6] قوله: ((به)) ليس في (م).
[7] في (م): ((قبله)).
[8] في (م) و(ق): ((وقد قال)).
[9] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[10] في (م): ((يأمره)).
[11] في (م): ((يستحب)).
[12] في (م) و(ص): ((هذا)).
[13] في (ق) و(م) و(ص): ((لو)).
[14] في (م): ((لما جاز))، و في (ق) و(ص): ((ما جاز)).