شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب رفع الصوت بالنداء

          ░5▒ باب: رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ.
          وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا، وَإِلا فَاعْتَزِلْنَا.
          فيه: أَبو سَعِيدٍ أَنَّ النبيَّ صلعم قَالَ لَه: (إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَى(1) صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ إِلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). [خ¦609]
          وفيه(2): أنَّ الشغل بالبادية واتخاذ الغنم من فعل السلف الصالح الذي ينبغي لنا الاقتداء بهم، وإن كان في ذلك ترك للجماعات(3) ففيهِ بعدٌ(4) عن الناس، وبُعد(5) عن فتن الدنيا وزخرفها، وقد جاء أنَّ الاعتزال للناس عند تغيِّر الزمان وفساد الأحوال مرغَّبٌ فيه، لقول النبي ◙(6): ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع(7) القطر، يفرُّ بدينِه من الفتن)). قال المُهَلَّب: وفيه فضل الإعلان بالسنن وإظهار أمور الدين، وإنَّما أمرَه أن يرفع(8) صوته بالنداء _والله أعلم_ ليسمعَه من بعُد منه فيكثر الشهداء له يوم القيامة، وقد اختُلف في قوله ◙: ((ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة))، فقالت طائفة: الحديث على العموم في كلِّ شيء، وجعلوا الجمادات وغيرها سامعة داخلة(9) في معنى الحديث(10). وقالت طائفة: لا يُراد بالحديث إلا من يجوز سماعُه من الجنِّ والإنس والملائكة وسائر الحيوانات(11)، قالوا: والدليل على ذلك أنَّه لم يذكر إلَّا الجنَّ والإنس ثمَّ قال: (ولا شيء)، يريد من صنف الحيوان السامع كالحشرات والدواب والأنعام والملائكة(12)، ولا يمنع أنَّ الله تعالى، يقدر على أن يُسمع الجمادات، لكنا لا نقول بذلك(13) مع جوازِه إلَّا بخبر لا يحتمل التأويل، وليس في هذا الحديث ما يقطع به على هذا المعنى.
          وقول عمر لمؤذِنِه: (أذِّن أذانًا سمحًا وإلَّا فاعتزلنا)، فإنَّما(14) نهاه عن التطريب في أذانِه والخروج عن الخشوع، روى(15) ابن أبي شيبة: حدَّثنا وكيع عن سفيان عن عمر بن سعيد(16) بن أبي حسين(17): ((أن مؤذنًا أذَّن فطرب في أذانِه فقال له عمر: أذِّن أذانًا سمحًا وإلَّا فاعتزلنا)). وفيه: أنَّ الأذان المنفرد مرغَّبٌ فيه مندوبٌ إليه، وقد رُوي عن النبي صلعم أنَّه قال: ((من أذَّن في أرضٍ فلاة وأقام وحدَه صلَّى وراءَه من الملائكة أمثال الجبال)).


[1] في (ق): ((نداء)).
[2] في (ق): ((فيه)).
[3] في (ق): ((ترك الجماعة)).
[4] في (ق) و(ص): ((عزلة)).
[5] في (م): ((وعزلة)).
[6] في (ص): ((وروي عن النبي صلعم أنه قال)).
[7] في (ص): ((مواضع)).
[8] في (ص): ((أمره برفع)).
[9] في (ق) و(ص): ((وداخلة)).
[10] في (ص): ((في معنى هذا الحديث)).
[11] في (ق): ((الحيوان)).
[12] في (ص): ((كالملائكة والحشرات والدواب)).
[13] في (ق) و(ص): ((ذلك)).
[14] في (ق) و(ص): ((إنما)).
[15] في (ص): ((وروى)).
[16] في (ص): ((عن عمرو عن سعيد)).
[17] قوله: ((ابن أبي حسين)) ليس في (ص).