شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: يبدى ضبعيه ويجافى في السجود

          ░130▒ باب: يُبْدِي ضَبْعَيْهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُودِ.
          فيه: ابْن بُحَيْنَةَ (أَنَّ رَسولَ الله صلعم كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ). [خ¦807]
          وهذه(1) صفة مستحسنة(2) عند العلماء(3)، ومن تركها لم تبطل صلاتُه، وقد اختلف السلف في ذلك، فممن رُوي عنه أنَّه كان يجافي في سجودِه: عليُّ بن أبي طالب والبراء وأبو مسعود وأبو سعيد الخدريِّ وابن عمر، ذكرَه الطبريُّ.
          وقال الحسن: حدَّثني أحمر صاحب النبيِّ صلعم قال: ((إن كنا لنأوي لرسول الله صلعم مما يجافي بمرفقيه عن جنبيه))، وفعلَه الحسن، وقال النَّخَعِيُّ: إذا سجد فليفرج بين فخذيه.
          وممن(4) رخَّص أن يعتمد بمرفقيه، /
          قال ابن مسعود: هُيئت عظام ابن آدم للسجود فاسجدوا حتى المرافق(5).
          وأجاز ابن سيرين أن يعتمد بمرفقيه على ركبتيه في سجودِه، وقال نافع: كان ابن عمر يضمُّ يديه إلى جنبيه إذا سجد، وسألَه رجل: هل يضع مرفقيه على فخذيه(6) في سجوده(7)؟ قال: اسجد كيف تَيَسَّر عليك.
          وقال أشعث بن أبي الشعثاء عن قيس بن سكن: كلُّ ذلك كانوا يفعلون ينضمون ويتجافون، كان بعضهم ينضم وبعضهم يجافي.
          وروى ابن عيينة عن سُميّ عن النعمان بن أبي عياش قال: (شُكي(8) إلى النبي صلعم الإدغام والاعتماد في الصلاة، فرخَّص لهم أن يستعين الرجل بمرفقيه على ركبتيه أو فخذيه)، ذكر هذا كلَّه ابن أبي شيبة في «مصنِّفِه»(9).
          وإنما(10) كان يجافي صلعم في سجودِهِ ويفرج بين يديه حتى يرى بياض إبطيه _والله أعلم_ ليخفَّ على الأرض ولا يثقل عليها، كما ذكر أبو عبيد عن عطاء بن أبي رَبَاح أنَّه قال: خُفُّوا على الأرض. قال أبو عبيد: وجهُه أنَّه يريد ذلك في السجود، يقول(11): لا ترسل نفسك على الأرض إرسالًا ثقيلًا، فيؤثر في جبهتك.
          ويبيِّن ذلك حديث مجاهد أنَّ حبيب بن أبي ثابت سألَه قال: إني أخشى أن يؤثر السجود في جبهتي؟ قال(12): إذا سجدت فتخافَّ(13)، يعني: خفِّف نفسك وجبهتك على الأرض، وبعض الناس يقولون(14): فتحاف(15)، والمحفوظ عندي بالحاء(16).
          وقد ذكر ابن أبي شيبة من كرِه ذلك ومن رخَّص فيه، ذكر عن ابن عمر: أنَّه رأى رجلًا قد أثَّر السجود في جبهتِه(17)، فقال: لا يشيننَّ أحدكم وجهَه، وكرهَه سعد بن أبي وقاص وأبو الدرداء والشَّعبيُّ وعطاء. وممَّن رخَّص في ذلك(18): قال أبو إسحاق السَّبيعيُّ: ما رأيت سجدة أعظم من سجدة ابن الزبير، ورأيتُ أصحاب عليٍّ، وأصحاب عبدالله وآثار السجود في جباههم وأنوفهم، وقال الحسن: رأيتُ ما يلي الأرض من عامر بن عبد قيس مثل ثفن البعير.
          وقد رُوي عن سعيد بن جبير، وعكرمة في تأويل قولِه ╡: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}[الفتح:29]، قالا: هو التراب وندى(19) الطهور. وروى ابن وهب عن مُطَرِّف(20) عن مالك أنَّه ما تعلَّق بالجبهة من أثر(21) الأرض وهذا يشبه الرخصة في هذا الباب.
          وفي الآية أقوال أُخر قيل: صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة، عن ابن عباس.
          وقال عطية: مواضع السجود أشدُّ بياضًا يوم القيامة، وهو قول الحسن(22) ومقاتل.
          وعن ابن عباس: هو السَّمت الحسن في الدنيا، وقال مجاهد: هو سيما الإسلام وسمتُه وتواضعُه.
          وقال الحسن(23): هو الصفرة التي تعلو الوجه من السهر والتعب.
          والضبعان: العضدان(24)، واحدهما: ضبع، ومنه الاضطباع في اللباس، ويُقال: ضبعت: إذا مددت يدي ومنه قول الشاعر:
ولا صُلْحَ حتى تَضْبَعُونا(25) ونَضْبَعا
          أي: حتَّى(26) تمدون أضباعكم إلينا بالسيوف(27) ونمدَّ أضباعنا، عن ابن قتيبة، وفي كتاب «العين»(28): المضبعة: اللحمة التي(29) تحت الإبط.
          وقوله: إن كنا لنأوي لرسول الله صلعم، قال صاحب «العين»: أويت له: رفقت(30) له.


[1] في (م) و(ص): ((هذه)).
[2] في (م): ((مستحبة)).
[3] قوله: ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا، فَلْيَتَّبِعْه، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ...صفة مستحسنة عند العلماء)) ليس في (ق).
[4] في (ق): ((من))، في (م) كتب فوقها: ((من)).
[5] في (م) و(ق) و(ص): ((بالمرافق)).
[6] في (م) و(ق): ((مرفقه على فخذه)).
[7] قوله: ((في سجوده)) ليس في (م) و(ق)، في (ص): ((إذا سجد)).
[8] في (ق): ((شكا)).
[9] في (م) و(ق): ((المصنف)).
[10] في (م) و(ق): ((قال المؤلف: وإنما)).
[11] في (ق): ((ويقول)).
[12] في (م) و(ق): ((فقال)).
[13] في (ص): ((فتجافَ)).
[14] في (م) و(ق): ((يقول)).
[15] في الموضعين أثبتها الناسخ ((فتجاف))، ولكن في الموضع الأول وضع على الفاء فتحة.
[16] في (م) و(ق) و(ص): ((فتجاف والمحفوظ عندي بالخاء)).
[17] في (م) و(ق): ((وجهه)).
[18] في (م): ((ومن رخص فيه)).
[19] في (ص): ((وكذا)).
[20] في (م): ((وهب ومطرف)).
[21] في (م) و(ق): ((تراب)).
[22] في (م) و(ق): ((القيامة عن الحسن)).
[23] في (م) و(ق): ((وعن الحسن)).
[24] في (ز): ((العضوان)) ولعله تصحيف، وأثبتت ((العضدان)) من نسخة (م).
[25] في (ص): ((تُضبِعون)).
[26] قوله: ((حتى)) ليس في (م) و(ق).
[27] في (ق): ((بالسيوف إلينا)).
[28] في (م): ((ونمد ضباعنا لابن قتيبة وفي العين))، و في (ق): ((ونمد أضباعنا لابن قتيبة وفي العين)).
[29] قوله: ((التي)) ليس في (م).
[30] في (ق): ((وقفت)).