إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت

          4531- وبه قال: (حَدَّثَنَا) بالجمع، ولأبي ذرٍّ: ”حدَّثني“ (إِسْحَاقُ) هو ابن رَاهُوْيَه قال: (حَدَّثَنَا رَوْحٌ) بفتح الراء، ابن عُبَادة _بضمِّ العين وتخفيف الموحَّدة_ قال: (حَدَّثَنَا شِبْلٌ) بكسر الشِّين المعجمة وسكون الموحَّدة آخرُه لامٌ، ابن عَبَّادٍ؛ بفتح العين وتشديد الموحَّدة (عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ) عبد الله المكِّيِّ (عَنْ مُجَاهِدٍ) هو ابن جَبْرٍ المفسِّر: ({وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ العِدَّةُ) أي: المذكورة في قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:234] (تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ) تعالى: ({وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم}[البقرة:240]) بنصب {وَصِيَّةً} في قراءة أبي عمرٍو وابن عامرٍ وحفصٍ وحمزة، أي: والذين يُتوَّفون منكم يوصون وصيَّةً، أو لِيُوصوا وصيَّةً، أو كتب الله عليهم وصيةً، أو ألزم الذين يتوفَّون وصيةً، وبالرَّفع قرأ الباقون على تقدير: ووصيَّةُ الذين يُتوفَّون، أو حكمُهم وصيَّةٌ ({مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ}) نُصِبَ بلفظ {وَصِيَّةً} لأنَّها مصدرٌ منوَّنٌ، ولا يضرُّ تأنيثها بالتَّاء لبنائها عليه، والأصل: وصيَّةٌ بمتاعٍ، ثمَّ حُذِفَ حرفُ الجرِّ اتِّساعًا، فنُصِبَ ما بعده‼، وهذا إذا لم تُجعَل «الوصيَّة» منصوبةً على المصدر؛ لأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل، وإنَّما يجيءُ ذلك حال رفعها أو نصبها على المفعول ({غَيْرَ إِخْرَاجٍ}) نعتٌ لـ {مَّتَاعًا} أو بدلٌ منه، أو حالٌ من الزَّوجات، أي: غيرَ مُخْرَجاتٍ، أو حالٌ من الموصِين، أي: غيرَ مُخرِجين ({فَإِنْ خَرَجْنَ}) من منزل الأزواج ({فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}[البقرة:240]) أيُّها الأولياء ({فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ}[البقرة:240]) ممَّا لم ينكره الشَّرع، وهذا يدلُّ على أنَّه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزَّوج والإحداد عليه، وإنَّما كانت مخيَّرةً بين الملازمة وأخذ النَّفقة وبين الخروج وتركها (قَالَ: جَعَلَ اللهُ لَهَا) أي: للمعتدَّة المذكورة في الآية الأولى (تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ) ولأبي ذرٍّ: ”بسبعة أشهرٍ“ (وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً(1) إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا؛ وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، وَهْوَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَالعِدَّةُ) وهي أربعة(2) الأشهر والعشر (كَمَا هِيَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا) قال شبل بن عبَّادٍ: (زَعَمَ) ابن أبي نَجيحٍ (ذَلِكَ) المتقدَّم (عَنْ مُجَاهِدٍ) وهذا يدلُّ على أنَّ مجاهدًا لا يرى نسخ هذه الآية.
          ثمَّ عطف المؤلِّف على قوله: «عن مجاهدٍ» قوله: (وَقَالَ عَطَاءٌ) هو ابن أبي رباحٍ، قال في «الفتح»: وهو من رواية ابن أبي نَجيحٍ عن عطاءٍ، ووهم من زعم أنَّه معلَّق، وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه لو كان عطفًا؛ لقال: وعن عطاءٍ، فظاهره التَّعليق: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَهْوَ) أي: النَّاسخ (قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قَالَ عَطَاءٌ) مفسِّرًا لِمَا رواه عن ابن عبَّاسٍ: (إِنْ شَاءَتِ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهِ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشْميهَنيِّ: ”عند أهلها“ (وَسَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ}) لدلالته على التَّخيير (قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ المِيرَاثُ) في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ}[النساء:12] (فَنَسَخَ السُّكْنَى) وتُرِكت الوصيَّة (فَتَعْتَدُّ(3) حَيْثُ شَاءَتْ، وَلَا سُكْنَى لَهَا) قال ابن كثيرٍ: فهذا القول الذي عوَّل عليه مجاهدٌ وعطاءٌ من أنَّ هذه الآية لم تدلَّ على وجوب الاعتداد سَنَةً _كما زعمه الجمهور_ حتَّى يكون ذلك منسوخًا بأربعة الأشهر والعشر(4)، وإنَّما دلَّت على أنَّ ذلك كان من باب الوصيَّة بالزَّوجات أن يُمَكَّنَّ من السُّكنى في بيوت أزواجهنَّ بعد وفاتهم حولًا كاملًا إن اخترن ذلك؛ ولهذا قال: {وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم} أي: يوصيكم الله بهنَّ وصيةً، كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} الاية[النساء:11].
          (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ) الفريابيِّ شيخ المؤلِّف، وهو معطوفٌ على / قوله: «حدَّثنا روحٌ» أو علَّقه المؤلِّف عنه، وقد وصله أبو نُعيمٍ في «مستخرجه» من طريق محمَّد بن عبد الملك بن زَنْجُويه، عن محمَّد بن يوسف _وهو الفريابيُّ_ أنَّه قال: (حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ) ابن عمرٍو الخوارزميُّ‼ (عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ) بفتح النُّون وكسر الجيم وبعد التَّحتيَّة السَّاكنة حاءٌ مهملةٌ، عبد الله، واسم أبي نَجيحٍ: يسارٌ (عَنْ مُجَاهِدٍ... بِهَذَا، وَعَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ╠ أنَّه (قَالَ: نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا فِي أَهْلِهَا، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ لِقَوْلِ اللهِ: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} نَحْوَهُ) أي: نحو ما رُوِي عن مجاهدٍ فيما سبق.


[1] «وصيَّةً»: سقط من (د).
[2] في (د): «الأربعة».
[3] في (د): «تعتدُّ».
[4] في (د): «بالأربعة الأشهر وعشر».