إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

كهيعص

          ░░░19▒▒▒ باب سورة مريم (كهيعص) مكِّيَّة، وقال مقاتل: إلَّا آية السجدة فمدنيَّة، وهي ثمان‼ وتسعون آية، واختُلف في معناها، فقيل: الكاف من «كريم»، والهاء من «هادي»، والياء من «حكيم»، والعين من «عليم»، والصاد من «صادق» قاله ابن عبَّاس فيما رواه الحاكم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه، وروى الطَّبريُّ عنه: «أنَّ {كهيعص} من أسماء الله» وعن عليٍّ أنَّه كان يقول: «يا كهيعص اغفر لي» وعن قَتادة: اسم من أسماء القرآن، رواه عبد الرَّزَّاق، وسأل رجلٌ محمَّد بن علي المرتضى عن تفسيرها فقال: لو أخبرتُك بتفسيرها لمشيتَ على الماء لا يواري قدميك، ولأبي ذَرٍّ: ”سورة كهيعص“ وفي نسخة بفرع «اليونينية» كأصلها(1): ”باب سورة مريم“.
          ( ╖ ) ثبتت البسملة لأبي ذرٍّ بعد التَّرجمة، وسقطت لغيره.
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ╠ ممَّا وصله ابن أبي حاتم في قوله تعالى: ({أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}[مريم:38]) ولأبي ذر: ”أَبْصِرْ بِهِم وِأَسْمِعْ“ على التقديم والتأخير، والأوَّلُ هو الموافق للفظ التنزيل (اللهُ يَقُولُهُ) جملةٌ اسميَّةٌ (وَهُمُ) أي: الكفَّار ({الْيَوْمَ}) نصب على الظَّرفيَّة، ولأبي ذَرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”القوم“ بالقاف (لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ {فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}) هو معنى قوله: {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[مريم:38] قال في «الأنوار»: أوقع الظالمين موقع الضمير _أي: لكنهم اليوم_ إشعارًا بأنَّهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين ينفعهم (يَعْنِي قَوْلَهُ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} الكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ) أي: يوم القيامة (أَسْمَعُ شَيْءٍ وَأَبْصَرُهُ) حين لا ينفعهم ذلك، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا}[السجدة:12] وقول الزَّركشيِّ في «التنقيح»: يريد أنَّ قوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} أمرٌ بمعنى الخبر، كما قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}(2)[البقرة:18] تعقَّبه في «المصابيح» فقال: أظنُّه لم يفهم كلامَ ابن عبَّاس، ولذلك ساقه على هذا الوجه، وكونه أمرًا بمعنى الخبر لا يقتضي انتفاء سماعهم(3) وإبصارهم، بل يقتضي ثبوتَه، ثم هو ليس أمرًا بمعنى الخبر، بل هو لإنشاء التعجُّب، أي: ما أسمعهم وما أبصرهم، والأمرُ المفهوم منه بحسب الظاهر غير مراد، بل انمحى الأمر فيه(4) وصار متمحِّضًا لإنشاء / التعجُّب، ومرادُ ابن عبَّاسٍ أنَّ المعنى: ما أسمع الكفَّار وأبصرهم في الدار الآخرة، وإنْ كانوا في دار الدنيا لا يسمعون ولا يبصرون؛ ولذا(5) قال: الكفَّارُ يومئذٍ أسمعُ شيءٍ وأبصرُه. انتهى. وأصحُّ الأعاريب فيه _كما في «الدر»_ أنَّ فاعله هو المجرور بالباء، والباء زائدة، وزيادتُها لازمةٌ إصلاحًا للفظ؛ لأنَّ «أَفْعِل»‼ أمرًا لا يكون فاعله إلَّا ضميرًا مستترًا، ولا يجوزُ حذف هذه الباء إلَّا مع «أنْ» و«أنَّ»، فالمجرور مرفوعُ المحلِّ، ولا ضمير في «أَفْعِل»، وقيل: بل هو أمرٌ حقيقةً، والمأمورُ هو رسولُ الله صلعم ، والمعنى: أسمِعِ الناسَ وأبصِرْ بهم وبحديثهم ماذا يُصنَع بهم مِنَ العذاب؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية.
          ({لَأَرْجُمَنَّكَ}) في قوله: {يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}[مريم:46] أي: (لَأَشْتِمَنَّكَ) بكسر المثنَّاة الفوقيَّة، قاله ابن عبَّاس فيما وصله ابن أبي حاتم أيضًا.
          ({وَرِئْيًا}) في قوله تعالى: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا}[مريم:74] قال ابن عبَّاس _فيما وصله الطَّبريُّ من طريق عليِّ بن أبي طلحةَ عنه_ أي: (مَنْظَرًا) بفتح المعجمة (وَقَالَ أَبُو وَائلٍ) شقيقُ ابنُ سَلَمَةَ في قوله حكاية عن مريم: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا}[مريم:18]: (عَلِمَتْ مَرْيَمُ أنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ) بضمِّ النون وسكون الهاء وفتح التحتيَّة، أي: صاحبُ عقلٍ وانتهاءٍ عن فعل القبيح (حَتَّى قَالَتْ) إذ رأتْ جبريلَ ╕ : ({إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا}[مريم:18]) وهذا وصله عبدُ بن حُميد من طريق عاصم، وسقط لغير الحَمُّويي، وذكره المؤلِّف في «باب قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ}»[مريم:16] من «أحاديث الأنبياء» [خ¦60/48-5273].
          (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان فيما ذكره في «تفسيره» في قوله: ({تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}[مريم:83]) أي: (تُزْعِجُهُمْ) أي: الشياطينُ (إِلَى المَعَاصِي إِزْعَاجًا) وقيل: تُغريهم عليها بالتسويلات وتحبيبِ الشهوات.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) فيما وصله الفِريابيُّ: ({إِدًّا}) في قوله: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}[مريم:89] أي: (عِوَجًا) بكسر العين وفتح الواو، وفي نسخة: ”عُوْجًا“ بضمِّ العين وسكون الواو، وفي أخرى: ”لُدًّا“ باللَّام المضمومة بدل الهمزة المكسورة، وقال ابن عبَّاسٍ وقَتادة: { إِدًّا}: عظيمًا، وهذا ساقطٌ لأبي ذَرٍّ.
          (قَالَ(6) ابْنُ عَبَّاسٍ: {وِرْدًا}) في قوله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}[مريم:86] أي: (عِطَاشًا) فإنَّ مَن يَرِدِ الماء لا يَرِدُه إلَّا لعطشٍ، وهذا ساقط لأبي ذرٍّ.
          ({أَثَاثًا}[مريم:74]) أي: (مَالًا).
          ({إِدًّا}) أي: (قَوْلًا عَظِيمًا) وقد مرَّ ذِكْرُه، لكنَّه فسَّره بغير الأوَّل، وقد مرَّ أنَّه عن ابن عبَّاسٍ وقَتادة.
          ({رِكْزًا}) في قوله: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}[مريم:98] أي: (صَوْتًا) أي: خفيًّا، لا مطلق الصوت.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غيرُ ابنِ عبَّاسٍ، وسقط ذلك لغير أبي ذر ({غَيًّا}) في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}[مريم:59] أي: (خُسْرَانًا) وقيل: وادٍ في جهنَّم تستعيذُ منه أوديتُها، وقيل: (7) شرًّا وكلَّ خسران(8)، وهذا ساقط لأبي ذرٍّ.
          ({وَبُكِيًّا}) في قوله تعالى: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}[مريم:58] (جَمَاعَةُ بَاكٍ) قاله أبو عُبيدة، وأصله: «بُكُوي» على وزن «فُعُول» بواو وياء، كـ «قُعود» جمع قاعد، فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما‼ بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، فصار «بُكُيًّا» هكذا، ثم كسرت ضمة الكاف لمجانسة الياء بعدها، وهذا ليس بقياسه بل قياس جمعه على «فعلة» كقاض وقضاة، وغزاة ورماة، وقيل: ليس بجمع، وإنَّما هو مصدرٌ على «فُعول» نحو: جلس جلوسًا، وقعد قعودًا، والمعنى: إذا سمعوا كلام الله خرُّوا ساجدين لعظمته، باكين من خشيته، روى ابن ماجه من حديث سعيد مرفوعًا: «نزل القرآن بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا»، وقال صالح المُرِّي: _بالراء المهملة المشدَّدة بعد ضمِّ الميم_ قرأت القرآن على رسول الله صلعم في المنام، فقال لي: يا صالح، هذه القراءة، فأين البكاء؟ ويروى(9): أنَّه كان إذا قصَّ قال: هات جونة المسك والترياق المجرب؛ يعني: القرآن، ولا يزال يقرأ ويدعو ويبكي حتى ينصرف.
          ({صِلِيًّا}[مريم:70]) في قوله: {أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} أي: هو مصدر (صَلِيَ) بكسر اللام (يَصْلَى) قاله أبو عُبيدة، والمعنى: احترق احتراقًا.
          ({نَدِيًّا}[مريم:73] وَالنَّادِي) يريد قوله: {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} وأن معناهما (وَاحِدٌ) أي (مَجْلِسًا) ومجتمعًا، وثبت «واحد» لأبي ذرٍّ(10).


[1] «كأصلها»: ليست في (م).
[2] في (ج) و(ل): «يبصرون».
[3] في (د): «أسماعهم».
[4] في (د): «به».
[5] في (د): «ولذلك».
[6] في (د): «وقال».
[7] في (ص): «كل».
[8] في (د): «شرًّا وخسرانًا».
[9] في (ص): «يرى».
[10] «وثبت واحد لأبي ذرٍّ»: سقط من (د).