إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قوله:{وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود}

          ░28▒ (بَابُ قَولِهِ) تعالى، وسقط التَّبويب وتاليه لغير أبي ذرٍّ ({وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ}) جميع اللَّيل بعد أن كنتم ممنوعين منهما بعد النَّوم في رمضان ({حَتَّى}) أي: إلى أن ({يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ}) وهو أوَّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود ({مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}) وهو ما يمتدُّ معه من غسق(1) اللَّيل، شبَّههما(2) بخيطين أبيض وأسود ({مِنَ الْفَجْرِ}[البقرة:187]) بيانٌ لـ {الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} واكتُفيَ به عن بيان {الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} لدلالته عليه، وبذلك خَرجَا من الاستعارة إلى التَّمثيل، كما قاله القاضي كالزَّمخشريِّ، قال الطِّيبيُّ: لأنَّ الاستعارة أن يُذكر أحد طرفي التَّشبيه ويراد به الطَّرف الآخر، وهنا: {الْفَجْرِ} هو المشبَّه، و{الْخَيْطُ الأَبْيَضُ (3)} هو المشبَّه به، ولا يُقال: بقي(4) الأسود على الاستعارة‼؛ لترك المشبَّه؛ لأنَّه لمَّا كان في الكلام ما يدلُّ عليه فكأنَّه ملفوظٌ، وقال المحقِّق الكافِيْجيُّ: تحقيق الكلام في هذا يحتاج(5) إلى تحقيق الفرق بين الكلام التَّشبيهيِّ والكلام المشتمل على الاستعارة؛ فالتَّشبيهيُّ(6): هو الذي يُذكَر فيه المشبَّه لفظًا نحو: زيدٌ أسدٌ، أو تقديرًا نحو: أسدٌ، في مقام الإخبار عن زيدٍ، وأمَّا الكلام الذي يتضمَّن الاستعارة؛ فهو الذي يُجعَل خِلْوًا عن ذكر المشبَّه، صالحًا لأن يراد به المشبَّه به لولا القرينة المانعة عن إرادته، وإذا عُلِم هذا فقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ...} إلى آخره فيه مقصدان:
          أحدهما: بيان أَّنه من قبيل التَّشبيه عند أهل البيان لا من قبيل الاستعارة؛ لما فيه من ذكر المشبَّه والمشبَّه به؛ وهما الفجر والخيط الأبيض، وغبش اللَّيل والخيط الأسود، على ما مرَّ.
          الثَّاني: تحقيق أنَّه من قبيل الاستعارة لا من باب التَّشبيه؛ استدلالًا عليه بنصِّ الكتاب، وتمسُّكًا بالسُّنَّة، وبشهادة فحوى الخطاب.
          أمَّا النَّصُّ فقوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} بيانٌ لـ {الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} ومعلومٌ عندك بالضَّرورة أنَّ البيان مع المبيَّن متَّحدٌ بالذَّات مختلفٌ بالاعتبار، وإنَّما يُتَصوَّر هذا المعنى المجازيُّ على سبيل الاستعارة، وإلَّا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وليس بمشتركٍ بينهما.
          وأمَّا السُّنَّة فقد عُلِم منها أنَّ المراد بياض النَّهار لا الخيط الأبيض؛ حيث قال ╕ فيما يأتي [خ¦4510]: «إنَّك لعريض القفا... بل هو سواد اللَّيل وبياض النَّهار» وأمَّا قولهم(7): «الاستعارة يجب فيها أن يُترَك ذكر المشبَّه احترازًا عن فوات المقصود، وتبرِّيًا عن عود الأمر على موضوعه بالنَّقض والإبطال، ولئلَّا يكون الأمر كلا أمرٍ» فهو مؤوَّلٌ بما لا يُذكَر المشبَّه بحيث يُنبِئ عن التَّشبيه، فيكون المراد رفع الإيجاب الكلِّيِّ، فيكون أعمَّ من عموم السَّلب.
          وأمَّا فحوى الخطاب؛ فلأنَّ المقام مقام المبالغة والاتِّحاد حتَّى اشتبه المراد على بعض الأذهان، لا مقام التَّغاير والتَّفاوت، ومدار الاستعارة حيثما كانت إنَّما هو على قصد المبالغة ودعوى الاتِّحاد، كما أنَّ مدار التَّشبيه إنَّما هو على قصد التَّغاير والتَّفاوت، والعمدةُ(8) في الفرق بينهما كمالُ التَّمييز بين المقامين بإعطاء كلِّ مقامٍ حقَّه، ثمَّ إنَّ المختار في نحو: زيدٌ أسدٌ هو التَّفصيل؛ فتارةً يكون استعارةً بحسب مقتضى المقام، وأخرى يكون تشبيهًا بحسبه أيضًا، فيكون هذا جمعًا بين القولين المختلفين، قال: فعُلِم من هذا ضعف قول من قال: إنَّه من باب الاستعارة على الإطلاق، كما عُلِم منه عدم متانة(9) قول من قال: إنَّه من باب التَّشبيه على الإطلاق. انتهى.
          و{مِنَ} في {مِنَ الْخَيْطِ}: لابتداء الغاية، وهي ومجرورها في محلِّ نصبٍ بـ {يَتَبَيَّنَ} و{مِنَ}(10) في {مِنَ الْفَجْرِ}: يجوز كونها تبعيضيَّةً، فتتعلَّق بـ {يَتَبَيَّنَ} لأنَّ الخيط الأبيض‼ هو بعض الفجر، وأن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من الضَّمير في {الأَبْيَضُ} أي: الخيط الذي هو أبيض كائنًا من الفجر، وعلى هذا: يجوز كون(11) {مِنَ} لبيان الجنس؛ كأنَّه قيل: الخيط الأبيض الذي هو الفجر، قال التَّفتازانيُّ: المعنى على التَّبعيض: حال كون الخيط الأبيض بعضًا من الفجر، وعلى البيان: حال كونه هو الفجر فأعربه حالًا.
          ({ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}) إلى غروب الشَّمس، والجارُّ والمجرور يتعلَّق بالإتمام، أو في محلِّ نصبٍ على الحال من {الصِّيَامَ} فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: كائنًا إلى اللَّيل ({وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ}) ولا / تجامعوهنَّ ({وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}) بنيَّة القربة، والجملة حاليَّةٌ من فاعل {تُبَاشِرُوهُنَّ} قال الضَّحَّاك: كان الرَّجل إذا اعتكف، فخرج من المسجد جامع إن شاء، حتَّى نزلت هذه الآية (إِلَى قَوْلِهِ: {يَتَّقُونَ}[البقرة:187]) أي: يتَّقون مخالفة الأوامر والنَّواهي، وسقط «{ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ}...» إلى آخره في رواية أبي ذرٍّ، وقال: ”الآية“ (العَاكِفُ: المُقِيمُ) كذا فسَّره أبو عبيدة، وسقط ذلك(12) لغير المُستملي.


[1] في (د): «غبش».
[2] في (د): «مشبِّهًا».
[3] في (د): «الأسود»، وليس بصحيحٍ.
[4] في (د): «نفى»، وهو تصحيفٌ.
[5] في (ص): «محتاجٌ».
[6] في (د): «فالتَّشبيه».
[7] في (ص): «قوله».
[8] في (د): «والعهدة».
[9] في (د): «مقاربة».
[10] {مِنَ}: مثبتٌ من (د).
[11] في (د): «وعلى هذا يكون».
[12] «ذلك»: ليس في (ص).