إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

سورة إبراهيم

          ░░░14▒▒▒ (سورة إِبْرَاهِيمَ) مكِّيَّةٌ، وهي إحدى وخمسون آيةً.
          ( ╖ . بابٌ) وسقطت البسملة لغير أبي ذَرٍّ، وكذا «باب».
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله(1) عنهما في قوله تعالى في سورة الرعد: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ} ({هَادٍ}[الرعد:7]) أي: (دَاعٍ) يدعوهم إلى الصَّواب ويهديهم إلى الحقِّ، والمراد: نبيٌّ مخصوصٌ بمعجزاتٍ من جنس ما هو الغالب عليهم، والظَّاهر: أنَّ وقوع ذلك هنا من ناسخٍ(2).
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) فيما وصله الفريابيُّ: (صَدِيدٌ) من قوله تعالى: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ}[إبراهيم:16]: هو (قَيْحٌ وَدَمٌ)(3) وقال قتادة: هو ما يسيل من لحمه وجلده، وفي روايةٍ عنه: ما يخرج من جوف الكافر قد خالط القيح والدَّم، وقيل: ما يخرج من فروج الزُّناة، وهل الصَّديد نعتٌ أم لا؟ فقيل: نعتٌ لـ {مَّاء} وفيه تأويلان: أحدهما: أنَّه على حذف أداة التَّشبيه، أي: ماءٌ مثل صديدٍ، وعلى هذا فليس الماء الَّذي يشربونه صديدًا، بل مثله في النَّتَن والغلظ والقذارة؛ كقوله: {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ}[الكهف:29] والثَّاني: إنَّ الصَّديد لمَّا كان يشبه الماء؛ أُطلِق عليه ماء، وليس هو بماءٍ حقيقةً، وعلى هذا فيشربون نَفْس الصَّديد المشبَّه بالماء، وإلى كونه صفةً ذهب الحوفيُّ وغيره، وفيه نظرٌ؛ إذ ليس بمشتَقٍّ إلَّا على قول(4) من فسَّره بأنَّه صديدٌ بمعنى: مصدود، أخذه من الصَّدِّ وكأنَّه لكراهته مصدودٌ عنه، أي: يمتنع عنه كلُّ أحدٍ(5)، ويدلُّ عليه {َتَجَرَّعُهُ} أي: يتكلَّف جرعه، وكذا {وَلاَ يَكَادُ}[إبراهيم:17] وسقط «وقال مجاهدٌ...» إلى آخره لأبي ذَرٍّ.
          (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان ممَّا وصله في «تفسيره» والطَّبريُّ(6) أيضًا‼: ({ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ}[المائدة:20]) أي: (أَيَادِيَ اللهِ عِنْدَكُمْ وَأَيَّامَهُ) أي: بوقائعه(7) الَّتي وقعت على الأمم الدَّارجة.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) فيما وصله الفريابيُّ في(8) قوله تعالى: {وَآتَاكُم} ({مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}[إبراهيم:34]) أي: (رَغِبْتُمْ إِلَيْهِ فِيهِ) وفي {مِّن} قولان؛ قيل: زائدةٌ في المفعول الثَّاني، وهذا إنَّما يأتي على قول الأخفش، وقيل: تبعيضيَّةٌ، أي: آتاكم بعض(9) ما سألتموه، نظرًا لكم ولمصالحكم، وعلى هذا فالمفعول محذوفٌ، أي: وآتاكم شيئًا من كلِّ ما سألتموه، وهو رأي سيبويه.
          ({وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}[إبراهيم:3]) قال مجاهدٌ فيما وصله عبد بن حميدٍ: (يَلْتَمِسُونَ) ولأبي ذَرٍّ: ”تبغونها: تلتمسون(10)“ بالفوقيَّة بدل التَّحتيَّة فيهما(11) (لَهَا عِوَجًا) أي: زيغًا ونكوبًا(12) عن الحقِّ ليقدحوا فيه، وأشار بقوله: «لها» إلى الأصل، ولكنَّه حذف الجارَّ وأوصل الفعل، والإضلال(13) يكون بالسعي في صدِّ الغير، وبإلقاء الشَّكِّ والشُّبهات في المذهب الحقِّ، ويحاول تقبيح الحقِّ بكلِّ ما يقدر عليه، وهذا النِّهاية.
          ({وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ}[إبراهيم:7]) أي: (أَعْلَمَكُمْ: آذَنَكُمْ) بمدِّ الهمزة، والمعنى: آذن إيذانًا بليغًا؛ لِمَا في «تَفَعَّل» من التَّكلُّف، وفي رواية أبي ذَرٍّ _كما في «فتح الباري»_: ”أعلمكم ربُّكم“ أي: إن شكرتم نعمتي من الإنجاء وغيره بالإيمان وصالحات الأعمال؛ لأزيدنَّكم النِّعم(14)، وإن جحدتموها فإنَّ عذابي بسلبها في الدُّنيا والنَّار في العقبى في غاية الشِّدَّة.
          (رَدُّوا) يريد قوله تعالى: {فَرَدُّواْ} ({أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}[إبراهيم:9]) قال أبو عبيدة: (هَذَا مَثَلٌ) ومعناه: (كَفُّوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ) من الحقِّ، ولم يؤمنوا به، قال في «الفتح»: وقد تعقَّبوا كلام أبي عبيدة بأنَّه لم يسمع من العرب: ردَّ يده في فِيْهِ؛ إذا تَرَكَ الشَّيء الَّذي كان يفعله. انتهى. وهذا الَّذي قاله أبو عبيدة قاله أيضًا الأخفش، وأنكره القتيبيُّ، ولفظه كما في «اللُّباب»: لم يسمع أحدٌ يقول: ردَّ يده إلى فِيْه؛ إذا تَرَكَ ما أُمر به، وأُجيبَ بأنَّ المثبِتَ مقدَّمٌ على النافي، قال في «الدُّرِّ»: والضَّمائر الثَّلاثة يجوز أن تكون للكفَّار، أي: فردَّ الكفَّار أيديهم في أفواههم من الغيظ؛ كقوله تعالى: {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}[آل عمران:119] فـ «في»(15) على(16) بابها من الظَّرفيَّة، أو فردُّوا أيديهم على أفواههم ضحكًا واستهزاء، فـ «في» بمعنى «على» أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولهم: إنَّا كفرنا، فـ «في» بمعنى «إلى» وأن يكون الأوَّلان للكفَّار والأخير للرُّسل، أي: فردَّ الكفَّار أيديهم في أفواه الرُّسل، أي: أطبقوا أفواههم يشيرون إليهم بالسُّكوت.
          وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ} ({مَقَامِي}[إبراهيم:14]) قال ابن عبَّاسٍ: (حَيْثُ يُقِيمُهُ اللهُ بَيْنَ يَدَيْهِ) / يوم القيامة للحساب.
          وقوله‼: ({مِّن وَرَآئِهِ}[إبراهيم:16]) أي: من (قُدَّامِهِ) ولأبي ذَرٍّ: ”قدَّامَه جهنَّم“ بنصب ميم قدَّامَه، وهذا قول الأكثر؛ وهو من الأضداد، وعليه قوله:
عسى الكربُ الَّذي أَمْسَيتَ فيه                     يَكُونُ وراءه فَرجٌ قَرِيبُ
أي: قدَّامه، وقول الآخر:
أليسَ وَرائِي إنْ تراختْ منيّتي                     لزوم العَصا تُحْنى عليها الأَضالِعُ(17)
وقيل: بعد موته.
          وقوله تعالى: ({ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا}[إبراهيم:21]) قال أبو عبيدة: (وَاحِدُهَا: تَابِعٌ؛ مِثْلُ: غَيَبٍ وَغَائِبٍ) وخدمٍ(18) وخادمٍ، أي: يقول الضُّعفاء للَّذين استكبروا _أي: لرؤسائهم الَّذين استتبعوهم_: إنَّا كنَّا لكم تبعًا في التَّكذيب للرُّسل والإعراض عنهم.
          وقوله تعالى: ({مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ}[إبراهيم:22]) يقال: (اسْتَصْرَخَنِي) أي: (اسْتَغَاثَنِي) فكأنَّ همزته للسَّلب، أي: أزال صراخي (يَسْتَصْرِخُهُ مِنَ الصُّرَاخِ) والمعنى: ما أنا بمغيثكم من العذاب، وسقط لأبي ذَرٍّ قوله: «{بِمُصْرِخِكُمْ}...» إلى آخره(19).
          ({وَلاَ خِلاَلٌ}[إبراهيم:31] مَصْدَرُ: خَالَلْتُهُ(20) خِلَالًا) قال طَرَفة:
كُلُّ خليلٍ كنتَ خاللتَهُ                     لا تركَ اللهُ له واضحةً
(وَيَجُوزُ(21) أَيْضًا؛ جَمْعُ: خُلَّةٍ وَخِلَالٍ) كبُرْمَةٍ وبرامٍ، وهذا قاله الأخفش، والجمهور على الأوَّل، والمخاللة: المصاحبة.
          ({ اجْتُثَّتْ}) من قوله تعالى: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ}[إبراهيم:26] أي: (اسْتُؤْصِلَتْ) وأُخِذَت جثَّتها بالكليَّة، قال لقيطٌ الإيادي:
هذا الخلاءُ الَّذي يجتثُّ أصلَكُمُ                     فمَن رأى مثلَ ذا آتٍ ومَن سمِعَا


[1] زيد في (د): «تعالى».
[2] يقصد أن هذه الكلمة من سورة الرعد وليس من سورة إبراهيم فلعل أحد النساخ جعلها في هذا الباب.
[3] قوله: «من قوله تعالى: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ}: هو قَيْحٌ وَدَمٌ»، سقط من (ص).
[4] «قول»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[5] في (م): «واحدٍ».
[6] في (د): «الطَّبراني»، وهو تحريفٌ.
[7] في (ب): «وقائعه».
[8] في (د): «مِن».
[9] زيد في غير (د) و(م): «جميع».
[10] في (د) و(م): «تلتمسونها»، والمثبت موافقٌ لما في «اليونينيَّة».
[11] «فيهما»: ليس في (د).
[12] في (د): «وتلويًّا».
[13] في (ب): «الإضافة»، ولا يصحُّ.
[14] في (د): «النَّعيم».
[15] في (م): «وفي».
[16] «على»: ليس في (ص).
[17] في (د): «الأصابع». وهو المثبت في متن (ج)، وأشار في الهامش إلى أن الأضالع في نسخة.
[18] في (د): «ومثل خَدَم».
[19] قوله: «وسقط لأبي ذرٍّ قوله: { بِمُصْرِخِكُمْ}»: سقط من (د).
[20] في (د): «خاللتُ».
[21] في (د): «ويكون».