إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

كتاب البيوع

          ░░34▒▒ ( ╖ (1) كِتَابُ البُيُوعِ) جمعُ بيعٍ، وجُمِعَ لاختلافِ أنواعه، كبيعِ العينِ، وبيعِ الدَّينِ، وبيع المنفعة، والصَّحيحِ والفاسد، وغير ذلك، وهو في اللُّغة: المبادلةُ، ويُطلقُ أيضًا على الشِّراء، قال الفرزدق:
إنَّ الشَّبابَ لَرابحٌ مَن باعهُ                     والشَّيبُ ليس لبائِعيه تِجارُ
          يعني: من اشتراه، ويُطلق الشِّراء أيضًا على البيع، نحو: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}[يوسف:20] قيل: وسُمِّي البيعُ بيعًا؛ لأنَّ البائعَ يمدُّ باعه إلى المشتري حالة العقد غالبًا، كما يُسمَّى صفقةً؛ لأنَّ أحد المتبايعين يصفِّق يده على يد صاحبه، لكن رُدَّ كون البيع مأخوذًا من الباع؛ لأنَّ البيع يائيُّ العين، والباع واويٌّ، تقول منه: بُعْت الشيء _بالضَّمِّ_ أبوعه بوعًا، إذا قستَه بالباع، واسم الفاعل من باع: بائعٌ _بالهمز_ وتركه لحنٌ، واسم المفعول: مَبِيعٌ، وأصله: مَبْيُوعٌ، قيل: حُذِفت الياء؛ لأنَّ(2) الذي حُذِف من «مبيعٍ» واو مفعولٍ لزيادتها، وهي أَولى بالحذف، وقال الأخفش: المحذوف عين الفعل؛ لأنَّهم لمَّا سكَّنوا الياء ألقَوا حركتها على الحرف الذي قبلها فانضمَّت، ثم أبدلوا من الضمَّةِ كسرةً للياء التي بعدها، ثم حُذِفت الياء وانقلبت الواو ياءً، كما انقلبت واو «ميزانٍ» للكسرة، قال المازنيُّ(3): كلا القولين حسنٌ، وقول الأخفش أقيس.
          والبيع في الشَّرع: مقابلةُ مالٍ قابلٍ للتَّصرُّف بمالٍ قابلٍ للتَّصرُّف مع الإيجاب والقبول على الوجه المأذون فيه، وحكمته: نظام(4) المعاشِ وبقاء العالم؛ لأنَّ حاجة الإنسان تتعلَّق بما في يد صاحبه غالبًا، وقد لا يبذلها له بغير المعاملة، وتُفضي إلى التَّقاتل والتَّنازع وفناء العالم واختلال(5) نظام المعاش وغير ذلك، ففي تشريع البيع وسيلةٌ إلى بلوغ الغرض من غير حرجٍ، ومن ثمَّ عقَّب المؤلِّف كغيره المعاملات بالعبادات؛ لأنَّها ضروريَّةٌ، وأخَّر النِّكاح؛ لأنَّ شهوته متأخِّرةٌ عن شهوة الأكل والشُّرب ونحوهما، وقد ثبتت البسملةُ مقدَّمةً قبل «كتاب» في الفرع، ومؤخَّرةً عنه(6) لأبي ذرٍّ.
          (وقولِ الله ╡) بالجرِّ عطفًا على المجرور السَّابق: ({وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة:275]) لمَّا ذمَّ الله أَكَلَة الرِّبا بقوله تعالى: / {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البقرة:275] وأخبر أنَّهم اعترضوا على أحكام الله تعالى، وقالوا: البيع مثل الرِّبا، فإذا كان الرِّبا حرامًا فلا بدَّ أنْ يكون البيع كذلك، فردَّ(7) الله عليهم بقوله: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة:275] واللَّفظ لفظ العموم، فيتناول كلَّ بيعٍ، فيقتضي إباحة الجميع، لكن قد منع الشَّارع بيوعًا أخرى وحرَّمها، فهو عامٌّ في الإباحة، مخصوصٌ بما لا يدلُّ الدَّليل على منعه، وقال إمامنا الشَّافعيُّ فيما رأيته في كتاب «المعرفة» للبيهقيِّ: وأصل البيوع‼ كلِّها مباحٌ إذا كانت برضا المتبايعين الحائزين الأمر فيما تبايعا، إلَّا ما نهى عنه رسول الله(8) صلعم منه، أو ما(9) كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلعم . انتهى. (وَقَولُـِهُِ) بالجرِّ عطفًا على سابقه، ويجوز الرَّفع على الاستئناف: ({إِلاَّ أَن تَكُونَ}) التِّجارة ({تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}[البقرة:282]) استثناءٌ من الأمر بالكتابة، والتِّجارة الحاضرة تعمُّ المبايعة بدينٍ أو عينٍ، وإدارتها بينهم: تعاطيهم إيَّاها يدًا بيد، أي: إلَّا أنْ تتبايعوا يدًا بيد فلا بأس ألَّا تكتبوا؛ لبعده عن التَّنازع والنِّسيان، قاله البيضاويُّ. وقال الثَّعلبيُّ: الاستثناء منقطعٌ، أي: لكن إذا كانت تجارةً فإنها ليست بباطلٍ، فأوَّلُ هذه الآية يدلُّ على إباحة البيوع المؤجَّلة، وآخرها على إباحة التِّجارة في البيوع الحالَّة، وسقطت الآيتان في رواية أبوي ذرٍّ والوقت وابن عساكر.


[1] في (م) زيادة: (الحمد لله على إنعامه وإفضاله وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وآله وسلَّم تسليمًا كثيرًا، وبالسَّند إلى الإمام البخاريِّ قال)، وفي (ص): «الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم».
[2] «حذفت الياء؛ لأنَّ»: سقط من (ب) و(س).
[3] في (د1): «الماوردي»، ولعلَّه تحريفٌ.
[4] في (د1): «انتظام».
[5] في (ص) و(م): «واختلاف».
[6] في (م): «فيه».
[7] في (ب) و(س): «ردَّ».
[8] «رسول الله»: ليس في (د).
[9] «ما»: ليس في (ص).