إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

سورة {هل أتى على الإنسان}

          ░░░76▒▒▒ (سورة {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ}) مكِّيَّة، وآيُها إحدى وثلاثون.
          ( ╖ ) سقطتِ البسملة لغير أبي ذرٍّ. (يُقَالُ) وفي بعضِ النُّسخ: ”وقال يحيَى“ يعني: ابن زيادٍ الفرَّاء (مَعْنَاهُ: أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ، وَ«هَلْ» تَكُونُ جَحْدًا) أي: نفيًا (وَتَكُونُ خَبَرًا) يخبرُ بها عن أمرٍ مقرَّرٍ، فتكون على بابِها للاستفهامِ التَّقريري؛ ولذلك فسِّر بـ «قد»، وأصله كقوله:
سَائِلْ فَوَارِسَ يَرْبُوعٍ بِشِدَّتِنَا(1)                      أَهَلْ رَأَوْنَا بِسَفحِ القَاعِ ذِي الأَكَمِ
(وَهَذَا) الَّذي في الآيةِ (مِنَ الخَبَرِ) الَّذي بمعنى: قد، والمعنى _كما في «الكشَّاف»_: أقد أتى؟ على التَّقرير والتَّقريب جميعًا، أي: أتَى على الإنسانِ قبلَ زمنٍ قريبٍ حينٌ من الدَّهر لم يكن فيهِ شيئًا مذكورًا، أي: كان شيئًا(2) منسيًّا غيرَ مذكورٍ، أو هي للاستفهام التَّقريري لمن أنكرَ البَعث، كأنَّه قيل لمن أنكرَ البعث: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا}[الإنسان:1] فيقول: نعم، فيقال له: من أحدثَه(3) وكوَّنه بعد عدمهِ؛ كيف يمتنعُ عليه بعثَه وإحياؤه بعد موتِه؟ وهو معنى قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ}[الواقعة:62] أي: فهلَّا تذكَّرون فتعلَمون أن من أنشأَ شيئًا بعد أن لم يكن قادرًا على إعادتهِ بعدَ موتهِ وعدمه‼، فهي هنا للاستفهام التَّقريري لا للاستفهام المحض، وهذا هو(4) الَّذي يجبُ أن يكون؛ لأنَّ الاستفهام لا يَرِدُ من الباري جلَّ وعلا إلَّا على هذا النَّحو وما أشبهَه (يَقُولُ: كَانَ) الإنسانُ (شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا) بل كانَ شيئًا منسيًّا غير مذكورٍ بالإنسانيَّة (وَذَلِكَ مِنْ حِينِ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ إِلَى أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ) والمرادُ بـ {الْإِنسَانِ}: آدم، و{حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} أربعون سنةً، أو المرادُ بالإنسانِ الجنس، وبالحينِ مدَّة الحملِ.
          ({أَمْشَاجٍ}[الإنسان:2]) أي: (الأَخْلَاطُ) وهي (مَاءُ المَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ) يختلِطان في الرَّحم، فأيُّهما علا على الآخرِ؛ كان الشَّبه له، ثمَّ ينتقلُ بعدُ(5) من طورٍ إلى طورٍ، ومن(6) حالٍ إلى حالٍ؛ وهي (الدَّمُ وَالعَلَقَةُ) ثمَّ المُضغة، ثمَّ عظمًا يكسُوه لحمًا، ثمَّ يُنشئه خلقًا آخر، وعندَ ابنِ أبي حاتمٍ من طريقِ عكرمة قال: من الرَّجل الجلدُ والعظم، ومن المَرأة الشَّعر والدَّم، وقيل: إنَّ الله تعالى جعلَ في النُّطفة أخلاطًا(7) من الطَّبائع الَّتي تكون في الإنسانِ؛ من الحرارَةِ والبُرودةِ، والرُّطوبة واليُبوسة، فعلى هذا يكون التَّقدير من نطفةٍ ذاتِ أمشاجٍ، و{أَمْشَاجٍ} نعتٌ لـ {نُّطْفَةٍ} ووقعَ الجمع صفة لمفرد؛ لأنَّه في معنى / الجمع؛ لأنَّ المرادَ بها مجموعُ منيِّ الرَّجل والمرأة، وكلٌّ منهما مختلف(8) الأجزاءِ في الرِّقة والقِوام والخَواص؛ ولذلك يصيرُ كلُّ جزءٍ منهما مادَّة عضو.
          (وَيُقَالُ إِذَا خُلِطَ) شيءٌ بشيءٍ: (مَشِيجٌ) بفتح الميم، بوزن فعيل (كَقَوْلِكَ لَهُ: خَلِيطٌ) وسقط لفظ «له» لغير أبي ذرٍّ (وَمَمْشُوجٌ مِثْلُ: مَخْلُوطٍ).
          (وَيُقَالَ) ولأبي ذرٍّ في نسخة: ”ويقرأ“ ({سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا}[الإنسان:4]) بتنوين {سَلَاسِلَا}(9) وهي قراءةُ نافعٍ وهشام وأبي بكرٍ والكسائيِّ للتَّناسب؛ لأنَّ ما قبلهُ وما بعدهُ منوَّنٌ منصوبٌ، وقال الكسائيُّ وغيرُه من أهلِ الكوفةِ: إنَّ بعض العربِ يصرفُون جميع ما لا ينصرف إلَّا أفعل التَّفضيل. وعن الأخفشِ: يصرفونَ جميع ما لا ينصرف(10) مُطلقًا، وهم بنو أسدٍ؛ لأنَّ الأصل في الأسماءِ الصَّرف، وترك الصَّرف لعارضٍ فيها، وإنَّ هذا الجمع قد يجمعُ وإن كان قليلًا، قالوا: صواحِب وصواحِبات، فلمَّا جمع شابهَ المفرد فانصرف (وَلَمْ يُجِزْه بَعْضُهُمْ) بضم الياء وكسر الجيم وبعد الزاي الساكنة هاء، أي: لم يجزِ التَّنوين بعضهم(11)، كذا في الفَرْع، وسقطتِ الهاء في غيره، وفي «اليونينية» «بالراء» بدل: «الزاي» وسكون الجيم. وضبطَه في «الفتح» بالراء المكسورة من غير هاء. قال: والمرادُ أنَّ بعضَ القرَّاء أجرى «سلاسل» وبعضهم لم يُجْرِها، أي: لم يصرفها. قال: وهو اصطلاحٌ قديمٌ، يقولون للاسم المصروف: مُجرًى، قال: وذكرَ عياضٌ أنَّ في رواية الأكثر بالزاي، وهو الأوجَه. وقال العينيُّ: لم يبيِّن وجهَ الأوجهيَّة بل الرَّاء أوجه على ما لا يخفى، وفي البَرْماويِّ: ولم يجِز بعضهم _بجيم مكسورة وزاي_ من الجواز، وعند الأَصيليِّ: ”ولم يجرَّ“ براء مشددة، أي: لم يصرفه، وقال في «الكشَّاف» _فأغلظ وأساء_: إنَّ صاحبَ هذه القراءة ممَّن ضري بروايَة الشِّعر، ومرن لسانه على صرفِ ما لا ينصَرف. قال في «الانتصافِ»: هو _يعني: الزَّمخشري_ يرى أنَّ القراءات المستفيضَة غير موقوفَة على النَّقل والتَّواتر، وجعلَ التَّواتر من جملةِ غلطِ اللِّسان، والحقُّ أنَّها متواترةٌ عن النَّبيِّ صلعم ‼، وهي لغة من صرف في منثورِ الكلامِ جميعَ ما لا ينصرف إلَّا أفعل، والقراءات تشتملُ على اللُّغات المختلفة.
          ({مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:7]) قال الفرَّاء: (مُمْتَدًّا) والشَّر: (البَلَاءُ) والشِّدة (وَالقَمْطَرِيرُ) هو (الشَّدِيدُ) الكَريه (يُقَالَ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ) شديد (وَيَوْمٌ قُمَاطِرٌ) بضم القاف وبعد الميم ألف فطاء مكسورة فراء، قال الشَّاعر:
فَفَرُّوا إذَا مَا الحَرْبُ ثَارَ غُبَارُهَا                     وَلَجَّ بِهَا اليَوْمُ الشَّدِيدُ القُمَاطِرُ
والقمطَرير: أصلُه _كما قال الزَّجَّاج_ من اقْمَطَرَّتِ النَّاقَة؛ إذا رَفَعَتْ ذنبَهَا وجمعَتْ قُطْرَيْها وزَمَّت بأنْفِها(12) (وَالعَبُوسُ) في قولهِ {يَوْمًا عَبُوسًا}[الإنسان:10] (وَالقَمْطَرِيرُ) بفتح القاف (وَالقُمَاطِرُ) بضمها (وَالعَصِيبُ) في قولهِ: {يَوْمٌ عَصِيبٌ}[هود:77] (أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الأَيَّامِ فِي البَلَاءِ) وأطولها.
          (وَقَالَ مَعْمَرٌ) بسكون العين بين ميمين مفتوحتين آخره راء، هو أبو عُبيدة بنُ المثنَّى، قال في «الفتح»: وليسَ هو ابنَ راشدٍ ({أَسْرَهُمْ}[الإنسان:28]) أي: (شِدَّةُ الخَلْقِ) بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام، وفي التَّفسير: أحكمنَا رَبْط مفاصِلهم بالأعصابِ (وَكُلُّ شَيْءٍ شَدَدْتَهُ مِنْ قَتَبٍ) بفتح القاف والفوقية آخره موحدة، ولأبي ذرٍّ: ”وغَبِيط“ بغين معجمة مفتوحة فموحدة مكسورة فتحتية ساكنة فطاء مهملة: رحلٌ للنِّساء يشدُّ على الهودجِ، وفي نسخةٍ: ”مأسور“ الغَبيط: شيءٌ تركبهُ النِّساء يشبِه المِحَفَّة(13) (فَهْوَ مَأْسُورٌ) مربوطٌ.
          وسقط لأبي ذرٍّ عن المُستملي من قولهِ: «مَعمر...» إلى هنا، وثبتَ له من روايتهِ عن الحَمُّويي والكُشمِيهنيِّ، وزادَ في غيرِ(14) الفَرْع كأصلهِ قبله _وعليه شرحَ في «الفتح» وقال: إنَّه ثبتَ للنَّسفيِّ_: ”وقال الحسنُ“أي: البصريُّ ”النُّضرة في الوجهِ“ أي: حُسنًا فيهِ وإضاءَة ”والسُّرور في القلبِ، وقالَ ابنُ عبَّاس“ ☻ : ”{ الْأَرَائِكِ}“[الإنسان:13] هي ”السُّرُر“، وقال مقاتِل: السُّرر في الحجَال من الدُّرِّ والياقوتِ، ”وقال البراءُ“ ممَّا وصلَه سعيد بنُ منصور في قولهِ تعالى: ”{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا}“[الإنسان:14]: ”يقطفُون“ ثمارهَا ”كيف شاؤوا“ قيامًا وقُعودًا ومضطجعين، وعلى أيِّ حالٍ كانوا.
          ”وقالَ مجاهِدٌ“ في قولهِ: ”{سَلْسَبِيلًا}“[الإنسان:18] أي: ”حَدِيدُ الجِرْيَة“ في مسيلهِ، وعن بعضهم _فيمَا حكاهُ ابنُ جريرٍ_ / : إنَّما سمِّيت بذلك لسلاستِها في الحلقِ. وقال قتادةُ: مستعذبٌ ماؤها، وروى(15) محيي السُّنَّة عن مقاتلٍ: سمِّيت سلسبيلًا لأنَّها تسيلُ عليهم في طرقِهم ومنازلِهم، تنبُع من أصلِ العَرش من جنَّة عدنٍ إلى سائرِ الجِنَان، ويؤيِّده قوله: {تُسَمَّى} وأمَّا إذا(16) جعلَتْ صفةً _كما قال الزَّجَّاج_ فمعنَى {تُسَمَّى} توصَفُ.


[1] في (م): «لشدتنا»، وفي (ص): «بنشدتنا».
[2] في (ب) و(د): «نسيًا».
[3] في (د) زيادة: «بعد أن لم يكن».
[4] في (د): «وهو هذا».
[5] في (س): «بعده».
[6] قوله: «ومن»: ليست في (ص) و(م).
[7] في (م): «اختلاطًا».
[8] في (ص) و(م) و(د): «مختلفة».
[9] في (س) و(ص) زيادة: «وأغلالًا».
[10] قوله: «جميع ما لا ينصرف»: ليست في (س) و(ص).
[11] «بعضهم»: ليست في (ص) و(م).
[12] في (د): «وربت بنفسها».
[13] قوله: «وفي نسخةٍ: مأسور الغَبيط: شيءٌ تركبه النِّساء يشبِه المِحَفَّة»: ليست في (د).
[14] قوله: «غير»: ليست في (م).
[15] في (م) و(ب) زيادة: «عن».
[16] في (د): «إن».