إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب مناقب الأنصار

          ░░63▒▒ ( ╖ . بابُ مَنَاقِبُ الأَنْصَارِ) جمع ناصرٍ؛ كالأصحاب جمع صاحبٍ، ويُقال: جمع نصيرٍ كشريفٍ وأشرافٍ، والنِّسبة أنصاريٌّ، وليس نسبةً لأبٍ ولا أمٍّ، بل سُمُّوا بذلك؛ لما فازوا به دون / غيرهم من نصرته صلعم ، وإيوائه وإيواء من معه ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم، وكان القياس أن يُقال: ناصريٌّ، فقالوا: أنصاريٌّ كأنَّهم جعلوا الأنصار اسم المعنى، فإن قلت: «الأنصار» جمع قلَّةٍ، فلا يكون لِمَا فوق العشرة وهم ألوفٌ؛ أُجيب بأنَّ جمعَي القلَّة والكثرة إنَّما يُعتَبران في نكرات الجموع، أمَّا في المعارف فلا فرق بينهما، والأنصار هم ولد الأوس والخزرج وحلفاؤهم أبناء حارثة بن ثعلبة، وهو اسمٌ إسلاميٌّ، واسم أمِّهم قَيْلة _بالقاف المفتوحة والتَّحتيَّة السَّاكنة_ وسقط «باب» لأبوي ذرٍّ والوقت، فـ «مناقب»؛ بالرَّفع على ما لا يخفى(1) ({وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ}) أي: لزموهما وتمكَّنوا فيهما، أو تبوَّؤوا دار الهجرة ودار الإيمان، فحذف المضاف من الثَّاني، والمضاف إليه من الأوَّل، وعوّض عنه اللَّام، أو تبوَّؤوا دار الهجرة وأخلصوا الإيمان؛ كقوله:
علفتها تبنًا وماءً باردًا
          أو سمَّى المدينة بالإيمان؛ لأنَّها مظهره ({مِن قَبْلِهِمْ }) من قبل هجرة المهاجرين؛ وهم الأنصار ({يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}) ولا يثقل عليهم ({وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ}) من أنفسهم ({حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا}) ممَّا أُعطِي المهاجرون من الفيء وغيره وبقيَّة الأوصاف {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر:9] قال في «فتوح الغيب»: وحاصل الوجوه الأربعة يعود إلى أنَّ عطف «الإيمان» على «الدار» إمَّا(2) من باب التَّقدير، أو من باب الانسحاب، والإيمان إمَّا مُجرًى على حقيقته، أو استعارة؛ ففي الوجه الأوَّل الإيمان حقيقةٌ والعطف من باب التَّقدير، لكن يُقدَّر بحسب ما يناسبه، وكذلك في الوجه الثَّالث العطف فيه للتَّقدير لكن بحسب السَّابق، وفي الثَّاني والرَّابع العطف على الانسحاب، والإيمان على الوجه الثَّاني استعارةٌ مكنيَّةٌ‼، وعلى الثَّالث مجازٌ أُضِيف بأدنى ملابسةٍ، وعلى الرَّابع استعارةٌ مصرِّحةٌ تحقيقيَّةٌ، فشبَّه في الوجه الأوَّل الإيمان من حيث إنَّ المؤمنين من الأنصار تمكَّنوا فيه تمكُّن المالك المتسلِّط في مكانه ومستقرِّه بمدينةٍ من المدائن الحصينة بتوابعها ومرافقها، ثمَّ خَيَّل أنَّ الإيمان مدينةٌ بعينها تخييلًا محضًا، فأطلق على المُتخيَّل باسم الإيمان المُشبَّه، وجُعِلت القرينة نسبة التَّبوُّء اللَّازم للمُشبَّه به على سبيل الاستعارة التَّخييليَّة؛ لتكون مانعةً لإرادة الحقيقة، وعلى الرَّابع شُبِّهت طيبة _لكونها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان_ بالتَّصديق(3) الصَّادر من المخلص المُحلَّى بالعمل الصَّالح، ثمَّ أطلق الإيمان على مدينته ╕ بوساطة نسبة التَّبوُّء إليه، وهي استعارةٌ مصرِّحةٌ تحقيقيَّةٌ، لأنَّ المُشبَّه المتروك _وهو المدينة_ حسِّيٌّ، والجامع النَّجاةُ من مخاوف الدَّارين، ففي الأوَّل: المبالغة والمدح يعود إلى سكَّان المدينة أصالةً، وفي الثَّاني: بالعكس، والأوَّل أدعى لاقتضاء المقام؛ لأنَّ الكلام واردٌ في مدح الأنصار الذين بذلوا مهجهم وأموالهم في نصرة الله ونصرة رسوله صلعم ، وهم الذين آووه ونصروه، وسقط لأبي ذرٍّ قوله «{يُحِبُّونَ ...}» إلى آخره، وقال بعد قوله: {مِن قَبْلِهِمْ} ”الآية“(4).


[1] زيد في (ب) و(س): «وقول الله ╡: {وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ} ».
[2] «إمَّا»: ليس في (م).
[3] في (م): «بالصِّدق».
[4] «الآية»: سقط من غير (س).