إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

{والذاريات}

          ░░░51▒▒▒ ({وَالذَّارِيَاتِ}) مكِّيَّة، وآيُها ستون، ولأبي ذرٍّ: ”سورة {وَالذَّارِيَاتِ} ╖ “ وسقطتِ البسملَةُ لغير أبي ذرٍّ.
           (قَالَ عَلِيٌّ ◙ ) كذا في الفرع كأصله(1) ككثيرٍ من النُّسخ، وهو وإن كان معناهُ صحيحًا لكن ينبغِي أن يُساوى بين الصَّحابةِ في ذلك، إذ هو من باب التَّعظيم، والشَّيخان وعثمان أولى بذلك منه، فالأولى التَّرضِّي، فقد قال الجُوينيُّ: السَّلام كالصَّلاةِ، فلا يستعملُ في الغائبِ ولا يفردُ به غير الأنبياءِ، وسواءٌ في هذا(2) الأحياءُ والأمواتُ، وأما الحاضرُ فيخاطب به. انتهى.
          ({وَالذَّارِيَاتِ}: الرِّيَاحُ) الَّتي تذرُو التُّراب ذروًا، وهذا وصلهُ الفِريابيُّ، وسقطَ لغير أبي ذرٍّ لفظ «{وَالذَّارِيَاتِ}» وقيل: الذَّارياتُ: النِّساءُ الولودُ، فإنهنَّ يذرينَ الأولاد.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) غير عليٍّ: ({تَذْرُوهُ}) في قولهِ تعالى: {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} بالكهف →الآية:45← معناه: (تُفَرِّقُهُ) ذكره شاهدًا لسابقه.
          ({وَفِي أَنفُسِكُمْ}) نسق على { فِي (3) الْأَرْضِ} فهو خبر عن {آيَاتٌ}[الذاريات:20] أيضًا، والتَّقدير: وفي الأرضِ(4) وفي أنفسكُم آياتٌ ({أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[الذاريات:21]) قال الفرَّاء: (تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ فِي مَدْخَلٍ وَاحِدٍ) الفمُ (وَيَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ) القُبل والدُّبر.
          ({فَرَاغَ}[الذاريات:26]) أي: (فَرَجَعَ) قاله الفرَّاءُ أيضًا، وقيل: ذهبَ في خفيةٍ من ضيفهِ، فإنَّ من أدب المضيفِ أن يخفِي أمرهُ، وأن يبادرهُ بالقِرى(5) من غير أن يشعرَ / به الضَّيفُ حذرًا(6) من أن يكفَّهُ ويعذرهُ.
          ({فَصَكَّتْ}[الذاريات:29]) أي: (فَجَمَعَتْ) ولأبي ذرٍّ: ”جَمعَت“ (أَصَابِعَهَا فَضَرَبَتْ بِهِ) بما جمعتْ (جَبْهَتَهَا) فعل المتعجِّب، وهي عادةُ النِّساءِ إذا أنكرن شيئًا، وقيل: وجدتْ حرارةَ دم الحيضِ فضربتْ وجهها من الحياءِ، وسقطَ «به» لغير المُستملي.
          (وَالرَّمِيمُ: نَبَاتُ الأَرْضِ إِذَا يَبِسَ وَدِيْسَ‼) بكسر الدال من الدَّوسِ، وهو وطءُ الشَّيءِ بالأقدامِ والقوائمِ(7) حتَّى يتفتَّتَ، ومعنى الآية: ما تتركُ من شيءٍ أتتْ عليهِ من أنفسهِم وأموالِهم وأنعامِهم إلَّا جعلتْهُ كالشَّيءِ الهالكِ البالِي.
          ({لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47] أَيْ: لَذُو سَعَةٍ(8)) بخلقِنا، قاله الفرَّاءُ، وقال غيرُه: لقادِرون، من الوسعِ بمعنى الطَّاقةِ، كقولك: ما في وسعي كذا، أي: ما في طَاقتي وقوَّتي (وَكَذَلِكَ) قوله تعالى: ({عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ}[البقرة:236] يَعْنِي: القَوِيَّ) قاله الفرَّاء أيضًا.
          ({زَوْجَيْنِ})[الذاريات:49] ولأبي الوقتِ(9): ”{خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}“ نوعين وصنفينِ مختلفينِ (الذَّكَرَ وَالأُنْثَى) من جميع الحيوان (وَ) كذا (اخْتِلَافُ الأَلْوَانِ)، كما في قوله تعالى: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}[الروم:22] إذ(10) لو تشاكلَتْ وكانت نوعًا واحدًا؛ لوقع التَّجاهل والالتباسُ، وكذا اختلافُ الطُّعومِ (حُلْوٌ وَحَامِضٌ، فَهُمَا) لما بينهما من الضِّدِّيَّةِ كالذَّكرِ والأنثَى (زَوْجَانِ) كالسَّماءِ والأرضِ، والنُّورِ والظُّلمة، والإيمانِ والكفرِ، والسَّعادةِ والشَّقاوةِ، والحقِّ والباطلِ.
          ({فَفِرُّوا إِلَى اللهِ}[الذاريات:50]) أي: (مِنَ اللهِ إِلَيْهِ) ولأبي الوقتِ: ”معناهُ: إليهِ“ يريدُ من معصيتهِ إلى طَاعتهِ، أو من عذَابهِ إلى رحمتهِ، أو من عِقابهِ بالإيمانِ والتَّوحيدِ.
          ({ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}) ولأبي ذرٍّ: ”{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}“[الذاريات:56] أي: (مَا خَلَقْتُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الفَرِيقَيْنِ) الجنِّ والإنس (إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ) فجعل العام مرادًا به الخصوص؛ لأنَّه لو حملَ على ظاهرهِ لوقع التَّنافي بين العلَّةِ والمعلولِ؛ لوجودِ من لا يعبدهُ، كقولك: هذا القلمُ بريتُهُ للكتابَةِ، ثمَّ قد تكتبُ به وقد لا تكتبُ، وزاد زيدُ بن أسلم: ومَا خلقتُ الأشقِياءَ منهُم إلَّا ليعصُون.
          (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) ذاهبًا إلى حمل الآية على العمومِ: (خَلَقَهُمْ لِيَفْعَلُوا) التَّوحيد خلقَ تكليفٍ واختيارٍ، أي: ليأمرَهُم بذلك (فَفَعَلَ بَعْضٌ) بتوفيقهِ له (وَتَرَكَ بَعْضٌ) بخذلانهِ له وطردهِ، فكلُّ مخلوقٍ في الجنِّ والإنسِ(11) ميَسَّرٌ لما خُلقَ له، أو المعنى: ليطيعون وينقادُوا لقضائِي، فكلُّ مخلوقٍ من الجنِّ والإنسِ خاضعٌ لقضاءِ الله تعالى، متذلِّلٌ لمشيئتهِ، لا يملكُ لنفسهِ خروجًا عمَّا خلقَ عليه، ولم يذكرِ(12) الملائكةَ؛ لأنَّ الآية سيقَت لبيانِ قبحِ ما يفعلهُ الكفرةُ من تركِ ما خلقوا(13) له، وهذا خاصٌّ بالثَّقلين، أو لأنَّ الملائكةَ مندرجُونَ في الجنِّ لاستتارهِم (وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لأَهْلِ القَدَرِ) المعتزلة على أنَّ إرادةَ اللهِ لا تتعلَّقُ إلَّا بالخيرِ، وأما الشَّرُّ فليسَ مرادًا له؛ لأنَّه لا يلزمُ من كون الشَّيءِ معلَّلًا بشيءٍ أن يكون ذلك الشَّيءُ مرادًا، وألَّا يكون غيرهُ مرادًا، وكذا لا حجَّةَ لهم في هذه الآيةِ على أنَّ أفعال العبادِ معلَّلةٌ بالأغراضِ، إذ لا يلزم من وقوعِ‼ التَّعليلِ في موضعِ، وجوب التَّعليلِ في كلِّ موضعٍ ونحن نقولُ بجوازِ التَّعليلِ لا بوجوبهِ، أو أنَّ اللَّام قد ثبتتْ لغيرِ الغرضِ، كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}[الإسراء:78] وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}[الطلاق:1](14) ومعناه: المقارنةُ، فالمعنى هنا: قرنتُ الخلقَ بالعبادةِ، أي: خلقتُهُم وفرضتُ عليهم العبادةَ، وكذا لا حجَّة لهم فيها على أنَّ أفعالَ العبادِ مخلوقةٌ لهم لإسنادِ العبادةِ إليهم؛ لأنَّ الإسنادَ إنَّما هو من جهةِ الكسبِ.
          (وَالذَّنُوبُ) في قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا}[الذاريات:59] لغةً (الدَّلْوُ العَظِيمُ) وقال الفرَّاء: العظيمة (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) فيما وصلهُ الفِريابيُّ: ({ذَنُوبًا} سَبِيلًا) وهذا مؤخَّر(15) بعد تاليهِ عند غيرِ أبي ذرٍّ، وفي نسخة: ”سَجْلًا“ بفتح السين(16) المهملة وسكون الجيم، وزاد الفِريابيُّ عنه فقال: سجلًا من العذابِ مثل عذابِ أصحابِهم. وقال أبو عُبيدة: الذَّنوبُ النَّصيب، والذَّنوبُ والسَّجلُ أقلُّ ملئًا من الدَّلو.
          (صَرَّةٌ) بالرَّفع لأبي ذرٍّ، أي: (صَيْحَةٌ) ولغيرهِ بجرِّهِما، وهو موافقٌ للتِّلاوةِ.
          (العَقِيمُ) هي (الَّتِي لَا تَلِدُ) ولأبي الوقتِ(17): ”تَلْقَح شيئًا“ كذا في الفرع كأصله(18) بفتح التاء والقاف، وقال في «الفتح»: وزاد أبو ذرٍّ: ”ولا تَلْقَح شيئًا“.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ _كما ذكره في «بدء الخلق_ » [خ¦59/2-4978]: (وَ{الْحُبُكِ}) في قولهِ / تعالى: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ}[الذاريات:7] هو (اسْتِوَاؤُهَا وَحُسْنُهَا) وقال سعيد بن جُبير: ذاتُ الزِّينةِ، أي: المزيَّنةُ بزينةِ الكواكِبِ. قال الحسن: حُبِكَتْ بالنُّجومِ. وقال الضَّحَّاكُ: ذاتُ الطَّرائقِ، والمراد: إمَّا الطَّرائقُ المحسوسةُ الَّتي هي مسيرُ الكَواكبِ، أو المعقولةُ الَّتي يسلكُها النُّظَّارُ ويتوصَّل بها إلى المعارفِ.
          ({فِي غَمْرَةٍ}[الذاريات:11]) ولأبي ذرٍّ: ”غمرتُهُم“ والأوَّل هو الموافقُ للتِّلاوة هنا (فِي ضَلَالَتِهِمْ يَتَمَادَوْنَ) قاله ابن عبَّاس فيما وصلهُ ابنُ أبي حاتمٍ.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) غير ابن عبَّاسٍ: ({أَتَوَاصَوْا}[الذاريات:53]) أي: (تَوَاطَؤُوا) والهمزة الَّتي حذفها المؤلِّف للاستفهامِ التَّوبيخيِّ، والضَّميرُ في {بِهِ} يعودُ على القولِ المدلُولِ عليه بـ {قَالُوا}[الذاريات:52] أي: أتَواصى(19) الأوَّلون والآخرونَ بهذا القول المتضمِّن لساحرٍ أو مجنون؟ والمعنى: كيف اتَّفقوا على قولٍ واحدٍ كأنَّهم تواطؤُوا عليه؟!
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير ابن عبَّاسٍ: ({ مُسَوَّمَةً}[الذاريات:34]) أي: (مُعَلَّمَةً مِنَ السِّيمَا) بكسر السين المهملة وسكون التحتية، مقصورًا، وهي العلامةُ، وسقطَ لأبي ذرٍّ «{وَتَوَاصَوْا}: تواطؤُوا».
          وقال: ({قُتِلَ الْإِنسَانُ}[عبس:17] لُعِن) كذا في الفرع كأصلهِ و«آل ملك» و«النَّاصريَّة»(20)، وفي غيرها(21): ”{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}[الذاريات:10] لُعنُوا“ و{ الْخَرَّاصُونَ}: الكذَّابُون.
          ولم يذكرِ المؤلِّف حديثًا مرفوعًا هنا، والظَّاهر أنَّه لم يجدْهُ على شرطهِ. نعم، قال في «الفتح»: يدخلُ حديث ابن مسعودٍ: أقرأنِي رسولُ الله صلعم : «▬إنِّي أنَا الرَّزَّاق ذو القوَّةِ المَتِيْنُ↨» [الذاريات:58]. أخرجه أحمدُ والنَّسائيُّ، وقال التِّرمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ، وصحَّحه ابنُ حبَّان.


[1] «كأصله»: ليس في (د).
[2] في (د): «ذلك».
[3] في (م): «وجه».
[4] قوله: «فهو خبر عن آيات أيضًا، والتقدير: وفي الأرض»: ليس في (ص).
[5] في (م): «بالغداء».
[6] في (د): «خوفًا».
[7] في (م): «إلا قوائم».
[8] في (ب): «وسعة».
[9] في (ص): «ذر».
[10] في (م) و(ص): «و».
[11] قوله: «مخلوق في الجن والإنس»: زيادة من (ص) و(د).
[12] في (ص): «يذكرهم».
[13] في (ص): «خلق».
[14] قوله: «وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}»: ليست في (د).
[15] في (ص): «يوجد».
[16] قوله: «السين»: ليست في (م) و(ص) و(د).
[17] في (د): «ولأبي ذرٍّ: ولا تلقح»، وفي (م): «ذرٍّ».
[18] في (ب) و(س): «وأصله»، وهي ليس في (د).
[19] في (ص): «أتواصوا».
[20] قوله: «كأصله وآل ملك والناصريَّة»: ليس في (د) و(م). و«آل ملك» و«الناصرية» نسخ من الصحيح.
[21] في (د) و(م): «غيره».