إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

كتاب في المظالم

          ░░46▒▒ ( ╖ كِتَابٌ فِي(1) المَظَالِمِ) جمع مَظْلَـِمةٍ♣ _بكسر اللَّام وفتحها_ حكاه الجوهريُّ وغيره، والكسر أكثر، ولم يضبطها ابن سيده في سائر تصرُّفها إلَّا بالكسر، وفي «القاموس»: والمظلِمة _بكسر اللَّام_ وكَثُمامةٍ: ما تُظُلِّمَهُ الرَّجل(2)، فلم يذكر فيه غير(3) الكسر، ونقل أبو عبيدٍ عن أبي بكر بن القوطيَّة: لا تقول العرب: مظلَمةٌ _بفتح اللَّام_ إنَّما هي(4) مظلِمةٌ، بكسرها، وهي اسمٌ لما(5) أُخِذَ بغير حقٍّ، والظُّلْم _بالضَّمِّ_ قال صاحب «القاموس» وغيره: وضعُ الشَّيء في غير موضعه(6). (وَالغَصْبِ) وهو لغةً: أخذ الشَّيء ظلمًا، وقيل: أخذه جهرًا بغلبةٍ، وشرعًا: الاستيلاء على حقِّ الغير عدوانًا، وسقط حرف الجرِّ لأبي ذرٍّ وابن عساكر، و«المظالمُ» بالرَّفع، و«الغصبُ» عطفٌ عليه، وسقط لفظ «كتاب» لغير المُستملي، وللنَّسفيِّ: ”كتابُ الغصب بابٌ في المظالم“ (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفًا على سابقه: ({وَلاَ تَحْسَبَنَّ}) يا محمَّد ({اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}) أي: لا تحسبه إذا أنظرهم وأجَّلهم أنَّه(7) غافلٌ عنهم، مهملٌ لهم، لا يعاقبهم على صنيعهم، بل هو يحصي ذلك عليهم ويعدُّه عدًّا، فالمراد تثبيته صلعم ، أو هو خطابٌ لغيره ممَّن يجوز أن يحسبه غافلًا لجهله بصفاته تعالى، وعن ابن عيينة: تسليةً للمظلوم وتهديدًا للظَّالم ({إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ}) يؤخِّر عذابهم ({لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}) أي: تشخص فيه أبصارهم، فلا تقرُّ في أماكنها من شدَّة الأهوال، ثمَّ ذكر تعالى كيفيَّة قيامهم من قبورهم ومجيئهم إلى المحشر، فقال: ({مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ})[إبراهيم:43] أي: (رَافِعِي) رؤوسهم (المُقْنِعُ) بالنُّون والعين (وَالمُقْمِحُ) بالميم والحاء المهملة، معناهما (وَاحِدٌ) وهو رفع الرَّأس فيما أخرجه الفريابيُّ عن مجاهدٍ، وهو تفسير أكثر أهل اللُّغة، وسقط قوله «المقنع...» إلى آخره في رواية غير المُستملي والكُشْمِيْهَنِيِّ، وزاد أبو ذرٍّ هنا: ”باب قصاص المظالم“ (8).
           / (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) فيما وصله الفريابيُّ أيضًا: ({مُهْطِعِينَ}) أي: (مُدِيمِي النَّظَرِ) أي(9): لا يطرفون، هيبةً وخوفًا، وسقطت واو «وقال» لأبي ذرٍّ، ولأبوي ذر والوقت: ”مدمني النَّظر“ (وَيُقَالُ: مُسْرِعِينَ) أي: إلى الدَّاعي، كما قال تعالى: {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ}(10)[القمر:8] وهذا تفسير أبي عبيدة في «المجاز» ({لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}) بل تثبت عيونهم شاخصةً لا تطرف لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لِما يحلُّ بهم ({وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} يَعْنِي: جُوْفًا) بضمِّ الجيم وسكون الواو: خاويةً خاليةً (لَا عُقُولَ لَهُمْ) لفرط‼ الحيرة والدَّهشة، وهو تشبيهٌ محضٌ؛ لأنَّها ليست بهواءٍ حقيقةً، وجهة التَّشبيه يحتمل أن تكون في فراغ الأفئدة من الخير والرَّجاء والطَّمع في الرَّحمة ({وَأَنذِرِ النَّاسَ}) يا محمَّد ({يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ}) يعني: يوم القيامة، أو يوم الموت، فإنَّه أوَّل يوم عذابهم، وهو مفعولٌ ثانٍ لـ {أذةآر} ولا يجوز أن يكون ظرفًا؛ لأنَّ القيامة ليست بموطن الإنذار ({فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ}) بالشِّرك والتَّكذيب ({رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}) أخِّر العذاب عنَّا ورُدَّنا إلى الدُّنيا، وأمهلنا إلى أمدٍ وحدٍّ من الزَّمان قريبٍ نتدارك ما فرَّطنا فيه ({نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}) جوابٌ للأمر، ونظيره قوله تعالى: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ}[المنافقون:10] ({أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ}) على إرادة القول، وفيه وجهان: أن يقولوا ذلك بطرًا وأشرًا ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسَّفه، وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديدًا وأمَّلوا بعيدًا، وقوله: {مَا لَكُم} جواب القسم، وإنَّما جاء بلفظ الخطاب لقوله: {أَقْسَمْتُمْ} ولو حُكِي لفظ المقسمين لقِيل: ما لنا من زوالٍ، والمعنى: أقسمتم أنَّكم باقون في الدُّنيا لا تزالون بالموت والفناء، وقيل: لا تنتقلون إلى دارٍ أخرى _يعني: كفرهم بالبعث_ كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ}[النحل:38] قاله الزَّمخشريُّ.
          ({وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ}) بالكفر والمعاصي، كعادٍ وثمود ({وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}) بما تشاهدون في منازلهم من آثار ما نزل بهم، وما تواتر عندكم من أخبارهم ({وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ}) من أحوالهم، أي: بيَّنا لكم أنَّكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب، أو صفات ما فعلوا وفُعِل بهم التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة ({وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ}) أي: مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم، لإبطال الحقِّ وتقرير الباطل ({وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ}) ومكتوبٌ عنده فعلُهم، فهو مُجازيهم عليه بمكرٍ هو أعظم منه، أو عنده ما يمكرهم به، وهو عذابهم الذي يستحقُّونه ({وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ}) في العِظَم والشِّدَّة ({لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}) مُسوًّى لإزالة الجبال، مُعَدًّا لذلك، وقيل: (11) «إنْ» نافيةٌ، واللَّام مؤكِّدَةٌ لها، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة:143] والمعنى: ومُحالٌ أن تزول الجبال بمكرهم على أنَّ الجبال مَثَلٌ لآيات الله وشرائعه، لأنَّها بمنزلة الجبال الرَّاسية ثباتًا وتمكُّنًا، وتنصره قراءة ابن مسعودٍ: ▬وما كان مكرهم↨، وقُرِئ: {لَتَزُولُ} بلام الابتداء على معنى: وإن كان مكرهم من الشِّدَّة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع(12) عن أماكنها ({فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}[إبراهيم:47]) يعني قوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا}[غافر:51] {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}[المجادلة:21] وأصله: مُخْلِفَ رُسُلِه وعدَه، فقدَّم المفعول الثَّاني على الأوَّل إيذانًا بأنَّه لا يخلف‼ الوعد(13) أصلًا، كقوله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[آل عمران:9] وإذا لم يخلف وعده أحدًا، فكيف يخلف رسله؟ ({ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ}) غالبٌ لا يمُاكَر، قادرٌ لا يُدافَع ({ذُو انْتِقَامٍ}) لأوليائه من أعدائه _كما مرَّ_ ولفظ رواية أبي ذرٍّ: ”{وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} إلى قوله: { إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}“ ، وعنده بعد قوله: {وَأَنذِرِ النَّاسَ}... ”الآية“ .


[1] «في»: مثبتٌ من (ب) و(م).
[2] في (ج) و(ل): «ما تُظُلِّمُه».
[3] «غير»: سقط من (د1) و(ص).
[4] في (د) و(ص): «هو».
[5] «لِما»: ليس في (م).
[6] زيد في غير (د): «في المظالم»، ولعلَّه تكرارٌ.
[7] في (ص): «بأنه».
[8] قوله: «وسقط قوله: المقنع... باب قصاص المظالم»: سقط من (م).
[9] «أي»: مثبتٌ من (ص) و(م).
[10] قوله: «أي: إلى الدَّاعي؛ كما قال تعالى: { مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ }»: ليس في (د1) و(م).
[11] زيد في (ص): «إنَّ».
[12] في (د) و(ص): «وتنقطع».
[13] في (د): «الميعاد».