إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

سورة النور

          ░░░24▒▒▒ (سُورَةُ النُّورِ) مدنيَّة، وهي ثنتان أو أربع وستونَ آيةً.
          ( ╖ )‼ ثبتتِ البسملةُ لأبي ذرٍّ، وفي بعض النسخ ثبوتُها مقدمةً على السورة.
          ({مِنْ خِلَالِهِ}) في قوله تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ}[النور:43] أي: فترى المطر يخرُجُ (مِنْ بَيْنِ أَضْعَافِ السَّحَابِ) و«خِلال» مفرد كـ «حِجاب»، أو جمع كـ «الجبال» جمع جبل.
          ({سَنَا بَرْقِهِ}[النور:43] وَهُوَ الضِّيَاءُ) يقال: سَنا يسنُو سنًا(1)، أي: أضاءَ يُضِيءُ، قال امرؤ القيس:
يُضيءُ سناهُ أو مصابيحُ راهبٍ                     . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والسَّناء _بالمدِّ_ الرِّفعة، والمعنى هنا: يكادُ ضوءُ بَرْقِ السَّحاب يذهبُ بالأبصار مِن شِدَّةِ ضوئِه، والبرقُ الذي صفتُه كذلك لا بُدَّ وأن يكونَ نارًا عظيمةً خالصةً، والنَّار ضدُّ الماء والبرد، فظهورُه يقتضي ظهورَ الضدِّ مِنَ الضدِّ، وذلك لا يمكن إلَّا بقدرة قادرٍ حكيمٍ، وسقط لغير أبي ذرٍّ قوله: «وهو» من قوله: «وهو الضياء»(2).
          ({مُذْعِنِينَ}) في قوله تعالى: {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}[النور:49] (يُقَالُ لِلْمُسْتَخْذِي) بالخاء والذال المعجمتين؛ اسمُ فاعلٍ منِ استخذى، أي: خَضَعَ: (مُذْعِنٌ) بالذال المعجمة، أي: منقادٌ، يريد: إن كان لهمُ الحُكمُ لا عليهم يأتوا إليه مُنقادينَ؛ لِعلمِهِم بأنَّه يُحكَمُ لهم.
          ({أَشْتَاتًا} وَشَتَّى) بتشديد التاء (وَشَتَاتٌ) بتخفيفها (وَشَتٌّ) بتشديدها (وَاحِدٌ) في المعنى، ومراده: ما في قوله(3) تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}[النور:61] و{جَمِيعًا} حالٌ مِن فاعل { تَأْكُلُوا} و{أَشْتَاتًا} عطفٌ عليه، والأكثرون على أنَّ الآية نزلت في بني ليث بن عمرو، حيٍّ مِن كِنانة، كانوا يتحرَّجون أن يأكلَ الرجلُ وحدَه، فيمكثُ يومَه حتى يجدَ ضيفًا يأكلُ معه، فإن لم يجد مَن يؤاكِلُه لم يأكلْ شيئًا، وربَّما قعدَ الرَّجلُ والطعامُ بين يديه مِنَ الصباح إلى الرواح، فنزلت هذه الآية، فرُخِّص لهم(4) أن يأكلوا كيف شاؤوا، جميعًا: مجتمعين، أو أشتاتًا: متفرِّقين.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ فيما وصله الطبريُّ من طريق عليِّ بن أبي طلحةَ عنه(5) في قوله عالى: ({سورة أَنزَلْنَاهَا}[النور:1]) أي: (بَيَّنَّاهَا) قال الزَّركشيُّ _تَبَعًا للقاضي عِياضٍ_: كذا في النسخ، والصوابُ: {أَنزَلْنَاهَا (6) وَفَرَضْنَاهَا}: بيَّنَّاها، فـ «بيِّنَّاها» تفسيرُ {وَفَرَضْنَاهَا} لا تفسير {أَنزَلْنَاهَا}(7)، ويدلُّ عليه قولُه بعدَ هذا: ويقالُ في {وَفَرَضْنَاهَا}(8): أنزلنا فيها فرائض مختلفة، فإنَّه يدُلُّ على أنَّه تقدَّم له تفسيرٌ / آخر. انتهى. وتعقَّب الزركشيُّ صاحب «المصابيح» فقال: يا عجبًا لهذا الرجل وتقويله لابن عبَّاس ما لم يَقُلْه، فالبخاريُّ نقل عنِ ابن عبَّاسٍ تفسير {أَنزَلْنَاهَا} ببيَّنَّاها، وهو نقلٌ صحيحٌ، ذكره الحافظ(9) مغلطاي من طريق ابن المنذر بسندِه إلى ابن عبَّاسٍ، فما هذا الاعتراض البارد؟! انتهى. وقد‼ روى الطبريُّ من طريق عليِّ بن أبي طلحةَ عن ابن عبَّاس في قوله: {وَفَرَضْنَاهَا} يقول: بيَّنَّاها، قال في «الفتح» وهو يؤيِّدُ قولَ عياضٍ.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غيرُ ابنِ عبَّاسٍ: (سُمِّيَ القُرْآنُ؛ لِجَمَاعَةِ السُّوَرِ) بفتح الجيم والعين وتاء التأنيث، و«السور» مجرورٌ بالإضافة، ويجوزُ كسر الجيم والعين وهاء الضمير لجِماعِه، و«السور» نصبٌ مفعولٌ لـ «جماعه» (وَسُمِّيَتِ السُّورَةُ؛ لأَنَّهَا) منزلةٌ بعدَ منزلةٍ (مَقْطُوعَةٌ مِنَ(10) الأُخْرَى) والجمع سُوَر بفتح الواو، وقال الراعي:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .                     سُودُ المحاجرِ لا يقرأنَ بالسُّوَرِ
وفيها لغتان: الهمز وتركه، فبتركه: هي المنزلةُ مِن منازل الارتفاع، ومِن ثَمَّ (11)سمِّيَ سُورُ البلدِ، لارتفاعه على ما يحويه، ومنه قولُ النابغة:
ألم ترَ أنَّ اللهَ أعطاكَ سُورةً                     ترى كلَّ مَلْكٍ دُونها يَتَذَبْذَبُ
          يعني: منزلة من منازل الشَّرف التي(12) قصُرَت عنها منازل الملوك، فسُمِّيت سورة(13)؛ لارتفاعها وعلوِّ قدرها، وبالهمز: القطعة التي فصلت من القرآن عما سواها وأبقيت منه؛ لأنَّ سؤر كلِّ شيءٍ بقيتُه بعد ما يُؤخَذ منه (فَلَمَّا قُرِنَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ؛ سُمِّيَ) المجموعُ (قُرْآنًا) قال أبو عبيدةَ: سُمِّي القرآنُ؛ لأنَّه يَجمع السور فيضمُّها.
          (وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عِيَاضٍ) بسكون(14) العين (الثُّمَالِيُّ) بضمِّ المثلَّثة وتخفيف الميم نسبةً إلى ثُمالة؛ قبيلةٌ مِن الأزد، الكوفيُّ التَّابعيُّ، ممَّا وصله ابنُ شاهين من طريقه: (المِشْكَاةُ) هي (الكُـَوَّةُ) بضمِّ الكاف وفتحِها وتشديد الواو؛ هي(15) الطَّاقة غير النافذة(16) (بِلِسَانِ الحَبَشَةِ) ثمَّ عُرِّب، وقال مجاهدٌ: هي القنديل؛ وقيل: هي الأنبوبة في(17) وسط القنديل.
          وقوله تعالى: ({ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}) أي: (تَأْلِيفَ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}[القيامة:17-18]) أي: (فَإِذَا جَمَعْنَاهُ وَأَلَّفْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ؛ أَيْ: مَا جُمِعَ فِيهِ، فَاعْمَلْ بِمَا أَمَرَكَ) اللهُ فيه (وَانْتَهِ عَمَّا نَهَاكَ اللهُ) عنه(18)، وسقطت الجلالةُ لأبي ذرٍّ، وفي الأوَّل للكلِّ (وَيُقَالُ: لَيْسَ لِشِعْرِهِ قُرْآنٌ أَيْ: تَأْلِيفٌ، وَسُمِّيَ الفُرْقَانَ) بالنصب (لأَنَّهُ يُفَرِّقُ) بضمِّ التَّحتيَّة وفتح الفاء وتشديد الراء مكسورةً(19) (بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ: مَا قَرَأَتْ بِسَلًا قَطُّ) بفتح السِّين المهملة منوَّنًا مِن غير همزٍ؛ وهي الجلدةُ الرقيقةُ التي يكونُ فيها الولد (أَيْ: لَمْ تَجْمَعْ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا) والحاصلُ: أنَّ القُرآن عنده مشتقٌّ مِن «قرأ» بمعنى: جَمَعَ، لا مِن «قرأ» بمعنى: تَلَا.
          (وَقَالَ: {وَفَرَضْنَاهَا}[النور:1]) بتشديد الرَّاء، ولأبي ذرٍّ: ”ويقال في {وَفَرَضْنَاهَا}“ أي: (أَنْزَلْنَا فِيهَا فَرَائِضَ مُخْتَلِفَةً) فالتشديد لتكثير المفروض(20)، وقيل: للمبالغة في الإيجاب (وَمَنْ قَرَأَ: {وَفَرَضْنَاهَا})‼ بالتَّخفيف، وهي قراءة غير أبي عمرٍو وابن كثير (يَقُولُ): المعنى: (فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ) أي: فرضناها، فأسقط الضمير (وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ) إلى يوم القيامة، والسورة لا يمكن فرضها؛ لأنَّها قد دخلت في الوجود، وتحصيل الحاصل محالٌ، فوجب أن يكون المراد: فرضنا ما بُيِّنَ فيها مِنَ الأحكام.
          (قَالَ) ولأبي ذر: ”وقال“ (مُجَاهِدٌ) فيما وصله الطبريُّ في قوله: ({أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا}[النور:31]) أي: (لَمْ يَدْرُوا) بسكون الدال العورةَ من غيرها (لِمَا بِهِمْ) أي: لأجل ما بهم (مِنَ الصِّغَرِ) وقال الفرَّاء والزَّجَّاج: لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء، وقيل: لم يبلغوا حدَّ الشهوة، والطفل: يُطلق على المثنى والجمع، فلذا وصف بالجمع، أو لمَّا قُصِدَ به الجنس؛ رُوِعيَ فيه الجمعُ.
          (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ) بفتح المعجمة فيما وصله الطبريُّ: ({ أُوْلِي الْإِرْبَةِ}[النور:31]) هو (مَنْ لَيْسَ لَهُ إِرْبٌ) بكسر الهمزة، أي: حاجةُ النساء، وهم الشيوخُ الهِمُّ والممسوخون، وقال ابن جُبير: المعتوه، وقال ابن عبَّاس: المغفل(21) الذي لا شهوة له(22)، وقال مجاهد: المخنَّث الذي لا يقوم ذَكَرُه.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) فيما وصله الطبريُّ، هو الذي (لا يُهِمُّهُ إلَّا بَطْنُهُ، وَلَا يَخَافُ عَلَى النِّسَاءِ) لبَلَهِه (وَقَالَ طَاوُسٌ) فيما وصله عبد الرَّزَّاق عن أبيه(23): (هُوَ الأَحْمَقُ الَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ) وقيل: هو الذي لا تشتهيه المرأة، وثبت من قوله: ”وقال / الشَّعبيُّ... “ إلى هنا للنسفيِّ، وسقط من فرع «اليونينية» كأصله(24) كبعض الأصول.


[1] «سنا»: ليس في (د) و(م).
[2] قوله: «من قوله: وهو الضياء»: ليس في (د).
[3] في (د): «ومراده قوله»، وفي (ص) و(م): «ومراده في قوله».
[4] زيد في (د): «في».
[5] «عنه»: ليس في (د).
[6] في (د): «أنزلنا».
[7] في (د): «أنزلنا».
[8] في (ب) و(د): «فرضنا».
[9] في (م): «القاضي».
[10] في (ص): «عن».
[11] في (د): «ومنه سمي».
[12] في (م): «الذي».
[13] في غير (د): «السورة».
[14] في (م): «بكسر».
[15] في غير (د): «وهي».
[16] هكذا في (د) و(ب) و(س)، وفي باقي النسخ: «الغير نافذة».
[17] «في»: ليس في (د).
[18] في غير (د): «فيه».
[19] قوله: «بضمِّ التَّحتيَّة وفتح الفاء وتشديد الراء مكسورةً» سقط من (د).
[20] في (د): «الفروض».
[21] في (د) و(م): «الطفل».
[22] في (د) و(م): «فيه».
[23] في الأصول: «عنه عن أبيه» والتصحيح من تفسير عبد الرزاق والفتح.
[24] «كأصله»: ليس في (د) و(م).