إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

سورة الفتح

          ░░░48▒▒▒ (سورة الفَتْحِ) مدنيَّةٌ، نزلتْ مُنْصَرَف النَّبيِّ صلعم من الحديبية سنة ستٍّ من الهجرةِ، وآيُها تسع / وعشرون.
          ( ╖ ) سقطتِ البسملَةُ لغير أبي ذرٍّ. (قَالَ(1) مُجَاهِدٌ) فيما وصلهُ الطَّبريُّ من طريق ابنِ أبي نَجيحٍ عنه: ({بُورًا}) في قولهِ تعالى: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا}[الفتح:12](2) أي: (هَالِكِينَ) والبورُ: الهلاكُ، وهو يحتملُ أن يكون هنا مصدرًا أخبرَ به عن الجمعِ، كقوله:
يَا رَسُولَ الإِلَهِ إِنَّ لِسَانِي                     رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ
ولذلك يستوي فيه المفردُ والمذكَّر وضدهما، ويحتملُ أن يكون جمع: بائرٍ؛ كحائلٍ وحُول، في المعتلِّ، وبازلٍ وبُزل في الصَّحيح، وسقطَ هذا لغير أبي ذرٍّ.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) فيما وصلهُ ابنُ أبي حاتمٍ في قولهِ تعالى: ({سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم}[الفتح:29]) هي (السَّحْنَةُ) بفتح السين المهملة في «اليونينية»، وهي(3) في الفرع كذلك(4) مصلَّحة وتحت السِّين كشطٌ، وبذلك ضبطه ابنُ السَّكن والأَصيليُّ. وقال القاضِي عياضٌ: إنَّه الصَّوابُ عند أهل اللُّغة، وفي كثيرٍ من الأصولِ بكسرها والحاء المهملة ساكنة، وجزمَ ابنُ قتيبةَ بفتحها وأنكر السكون، وقد أثبتَه الكِسائيُّ والفرَّاء، وهي لينُ البشرةِ والنَّعمة، ولأبي ذرٍّ عن المُستملي والكُشمِيهنيِّ: ”السَّجدة“ وكذا في رواية القابسيِّ، أي: أثر السَّجدة في الوجهِ، لكن(5) في التئامِ هذا مع قوله: {مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}[الفتح:29] قلقٌ لا يخفى، وعن ابنِ عبَّاس في رواية عطيَّة العوفيِّ عنه: نورٌ وبياضٌ في وجوههم يوم القيامةِ. وعن عطاء بنِ أبي رباح: استنارة وجوههم من كثرةِ صلاتهم، أي: ما يظهرهُ الله تعالى في وجوهِ السَّاجدينَ نهارًا إذا قاموا باللَّيل متهجِّدينِ، فمن توجَّه إلى الله بكلِّيته لا بدَّ أن يظهرَ في وجههِ نورٌ تبهر منه الأنوارُ. وعن شهرِ بنِ حوشبٍ: تكون مواضع السُّجود من وجوههم كالقمرِ ليلةَ البدر. وعن الضَّحَّاكِ: صفرة الوجهِ. وروى السُّلَمِيُّ عن‼ عبد العزيزِ المكيِّ: ليس هو الصُّفرةُ، ولكنَّه نورٌ يظهرُ على وجوهِ العابدينَ يبدو من باطنِهم على ظاهرهِم، يتبيَّن ذلك للمؤمنين ولو كان ذلك في زنجيٍّ أو حبشيٍّ. قال ابنُ عطاء: ترى عليهم خلَعَ الأنوارِ لائحة، وقال الحسن: إذا رأيتَهم حسبتَهم مرضَى وما هم بمرضَى.
          (وَقَالَ مَنْصُورٌ) هو: ابنُ المعتمر، فيما وصلهُ عليُّ بنُ المدينيِّ، عن جرير، عنه: (عَنْ مُجَاهِدٍ): هو (التَّوَاضُعُ) وزاد في روايةِ زائدة عن منصورٍ _عند عبد بنِ حُمَيد_: قلت: ما كنتُ أراهُ إلَّا هذا الأثر الَّذي في الوجهِ، فقال: ربَّما كان بين عينِي من هو أقسَى قلبًا من فرعونَ. وقال بعضُهم: إنَّ للحسنةِ نورًا في القلبِ، وضياءً في الوجهِ، وسعةً في الرِّزقِ، ومحبَّةً في قلوبِ النَّاس، فما كَمن في النَّفس ظهرَ على صفحاتِ الوجهِ. وفي حديث جندبِ بن(6) سفيانَ البجليِّ عند الطَّبرانيِّ مرفوعًا: «ما أسرَّ(7) أحدٌ سريرةً إلَّا ألبسهُ الله رداءهَا، إنْ خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر».
          ({شَطْأَهُ}) في قولهِ: { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ}[الفتح:29] أي: (فِرَاخَهُ) يقال: أشطأ الزَّرع إذا فرَّخ، وهل يختصُّ ذلك بالحنطةِ فقط، أو بها وبالشَّعيرِ فقط، أو لا يختصُّ؟ خلافٌ مشهورٌ، قال:
أَخْرجَ الشَّطْءَ عَلَى وَجْهِ الثَّرَى                     ومِنَ الأَشْجَارِ أَفْنَانُ الثَّمَر
({فَاسْتَغْلَظَ}) أي: (غَلُظَ) بضم اللام ذلك الزَّرع بعد الرِّقَّة(8) ولأبي ذرٍّ: ”تغلَّظ“ أي: قويَ.
          ({سُوقِهِ}) من قوله تعالى: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ}[الفتح:29] (السَّاقُ: حَامِلَةُ الشَّجَرَةِ) والجار متعلِّق بـ { اسْتَوَى} ويجوز أن يكونَ حالًا، أي: كائنًا على سوقه، أي: قائمًا عليها.
          (وَيُقَالُ: {دَائِرَةُ السَّوْءِ}[الفتح:6] كَقَوْلِكَ: رَجُلُ السَّوْءِ) أي: الفاسدُ، كما يقالُ: رجلُ صدقٍ، أي: صالحٍ، وهذا قولُ الخليل والزَّجاج، واختاره الزَّمخشريُّ، وتحقيقه: أنَّ السَّوء في المعاني كالفسادِ في الأجسادِ، يقال: ساءَ مزاجُه، ساءَ خلقُه، ساء ظنُّه، كما يقال: فسدَ اللَّحمُ، وفسدَ الهواءُ، بل كلُّ ما ساءَ فقد فسدَ، وكلُّ ما فسدَ فقد ساءَ، غير أنَّ أحدهما كثيرٌ في الاستعمالِ في المعاني، والآخر في الأجرامِ، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}[الروم:41] وقال: { سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[التوبة:9] وسقطَ لأبي ذرٍّ لفظ «يقال» فقط.
          (وَ{دَائِرَةُ السَّوْءِ} العَذَابُ) يعني: حاقَ بهم العذابُ بحيثُ لا يخرجونَ منه، وضمَّ السين أبو عمرو وابنُ كثيرٍ، فمعنى(9) المفتوح: الفسادُ والرَّداءَةُ، والضم: الهزيمةُ والبلاءُ، أو المضمومُ / : العذابُ والضَّررُ، والمفتوح: الذَّمُّ.
          ({وَتُعَزِّرُوهُ}[الفتح:9]) أي: (ينْصُرُوهُ) قرأ ابنُ كثير وأبو عَمرو بالغيبة في: {لِتُؤْمِنُوا} {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} رجوعًا إلى { الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[الفتح:5] والباقون بالخطاب إسنادًا إلى المخاطبين، والظَّاهر أنَّ الضَّمائر عائدةٌ إلى الله، وتفريقُها‼ بجعلِ بعضها للرَّسول قولٌ للضَّحَّاك.
          ({شَطْأَهُ}): هو (شَطْءُ(10) السُّنْبُلِ) ولأبي ذرٍّ: ”شَطْأ“ بالألف بدل الواو صورة الهمزة (تُنْبِتُ) بضم أوَّله وكسر ثالثهِ من الإنباتِ (الحَبَّةُ) الواحدةُ (عَشْرًا) من السَّنابلِ (أَوْ ثَمَانِيًا) ولأبي ذرٍّ: ”وثمانيًا“ بإسقاط الألفِ (وَسَبْعًا) قال تعالى: { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}[البقرة:261] (فَيَقْوَى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَذَاكَ(11) قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَآزَرَهُ}) أي: (قَوَّاهُ) وأعانهُ (وَلَوْ كَانَتْ وَاحِدَةً؛ لَمْ تَقُمْ عَلَى سَاقٍ، وَهُوَ) أي: ما ذكر (مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلنَّبِيِّ صلعم ، إِذْ خَرَجَ) على كفَّار مكَّة (وَحْدَهُ) يدعوهُم إلى الله، أو لمَّا خرجَ من بيتهِ وحدَه حين اجتمعَ الكفَّارُ على أذاه (ثُمَّ قَوَّاهُ) ╡ (بِأَصْحَابِهِ) المهاجرينَ والأنصار (كَمَا قَوَّى الحَبَّةَ بِمَا يَنْبُتُ) بفتح أوَّله وضمِّ ثالثه، وبضم ثمَّ كسر (مِنْهَا) وقال غيره: هو مثل ضربهُ الله لأصحاب محمَّد صلعم في الإنجيلِ: أنَّهم يكونون قليلًا ثمَّ يزدادونَ ويكثرونَ. وقال قتادةُ: مثل أصحابِ محمَّد في الإنجيلِ مكتوبٌ له:(12) سيخرجُ قومٌ ينبتونُ نباتَ الزَّرعِ، يأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عن المنكرِ.


[1] في (د): «وقال».
[2] في (م) زيادة: «كذا في الفرع».
[3] قوله: «في اليونينية وهي»: ليس في (م).
[4] قوله: «كذلك»: ليس في (م).
[5] في (م): «لين».
[6] في (م): «عن».
[7] في (ص) و(ل): «سرَّ».
[8] في (ب) و(س): «الدقة».
[9] في (ص): «فمن».
[10] كتبت في (س) و(ص): (شطؤ)، وكتبت في (د): (شطأ).
[11] في (د): «فذلك».
[12] «له»: ليست في (م).