إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

سورة الحجر

          ░░░15▒▒▒ (سورة الحِجْرِ) ولأبي ذَرٍّ عن المُستملي: ”تفسير سورة الحجر“ وهي مكِّيَّةٌ، وآيها تسعٌ وتسعون، وزاد أبو ذَرٍّ: ” ╖ “.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) هو ابن جبرٍ فيما وصله الطَّبريُّ من طرقٍ عنه في قوله تعالى: {هَذَا} ({صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}[الحجر:41]) معناه(1): (الحَقُّ يَرْجِعُ إِلَى اللهِ، وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ) لا يعرِّج على شيءٍ، وقال الأخفش: عليَّ الدَّلالة على الصِّراط المستقيم، وقال غيرهما أي: مَن مرَّ عليه مرَّ عليَّ، أي: على رضواني وكرامتي، وقيل: {عَلَيَّ} بمعنى: إليَّ، وهذا إشارةٌ إلى الإخلاص المفهوم من المخلصين، وقيل: إلى انتفاء تزيينه‼ وإغوائه.
          وقوله: {وَإِنَّهُمَا} ({لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ}[الحجر:79]) أي: (عَلَى الطَّرِيقِ) الواضح، والإمام: اسمٌ لِمَا يُؤتَمُّ به، قال الفرَّاء والزَّجَّاج: إنَّما جُعِل الطَّريقُ إمامًا لأنه يُؤَمُّ ويُتبَع، قال ابن قتيبة: لأنَّ المسافر يأتمُّ به حتَّى يصير(2) إلى الموضع الَّذي يريده، و {مُّبِينٍ} أي: في نفسه أو مبين لغيره؛ لأنَّ الطَّريق يهدي إلى المقصد، وضمير التَّثنية في {وَإِنَّهُمَا} الأرجح أنَّه لقريتي قوم لوطٍ وأصحاب الأيكة؛ وهم قوم شعيبٍ لتقدُّمهما ذِكْرًا، وقوله تعالى: «{لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} على الطَّريق» ثابتٌ لأبي ذَرٍّ عن المُستملي (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ╠ فيما وصله ابن أبي حاتمٍ في قوله: ({لَعَمْرُكَ}[الحجر:72]) معناه: (لَعَيْشُكَ) والعَمْر والعُمْر بفتح العين وضمِّها واحدٌ؛ وهما مدَّة الحياة، ولا يُستعمَل في القَسَم إلَّا بالفتح، وفي هذه الآية شرفُ نبيِّنا(3) محمَّدٍ صلعم ؛ لأنَّ الله تعالى أقسم بحياته، ولم يفعل ذلك لبشرٍ سواه على ما نُقِل عن ابن عبَّاسٍ، أو الخطاب هنا للوطٍ ╕ ، قالت الملائكة له ذلك، والتَّقدير: لعَمْرك قسمي، والقَسَم بالعمر في القرآن وأشعار العرب وفصيح كلامها(4) في غير موضعٍ؛ وهو من الأسماء اللَّازمة للإضافة فلا يقطع عنها، ويضاف لكلِّ(5) شيءٍ، لكن منعَ(6) بعضُ أصحاب المعاني فيما ذكره الزَّهراويُّ إضافتَه إلى الله؛ لأنَّه لا يُقال: لله تعالى عُمْرٌ، وإنَّما هو بقاءٌ أزليٌّ، وقد سُمِع إضافته إلى الله تعالى قال:
إِذَا رَضِيتْ عَلَيَّ بَنُو قُشيرٍ                     لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاها
ومنع بعضُهم إضافتَه إلى ياء المتكلِّم، قال: لأنَّه حلف بحياة المقسم، وقد ورد ذلك، قال النَّابغة:
لَعَمْرِي وما عُمْرِي عَلَيَّ بِهَيِّنٍ                     لقد نطقتْ بطلًا عليَّ الأقارعُ
/ ({قَوْمٌ مُّنكَرُونَ}[الحجر:62] أَنْكَرَهُمْ لُوطٌ) قيل: لأنَّهم سلَّموا ولم يكن من عادتهم، وقيل: لأنَّهم كانوا على صورة الشَّباب المُرْد، فخاف هجوم القوم، فقال هذه الكلمة؛ يعني: تُنكِرُكم نفسي وتَنْفِرُ عنكم، فقالت الملائكة: ما جئناك بما تنكِر بل جئناك بما يسرُّك، ويشفي لك من عدوِّك؛ وهو العذاب الَّذي توعَّدتهم(7) به فيمترون فيه، وسقط قوله: «{لَعَمْرُكَ}...» إلى هنا لأبي ذَرٍّ إلَّا في رواية المُستملي.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) غير ابن عبَّاسٍ في قوله تعالى: ({إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ}[الحجر:4]) أي: (أَجَلٌ) أي: إنَّ الله تعالى لا يهلك أهل قريةٍ إلَّا ولها أجلٌ مقدَّرٌ كُتِب في اللَّوح المحفوظ(8) أو كتابٍ مختصٍّ به.
          ({لَّوْ مَا تَأْتِينَا}[الحجر:7]) أي: (هَلاَّ تَأْتِينَا) يا محمَّدُ بالملائكة؛ لتصديق دعواك إن كنت صادقًا، أو لتعذيبنا على تكذيبك؛ كما جاءت الأمم السَّابقة(9)، فإنَّا نصدِّقُك حينئذٍ، فقال الله تعالى: ما تنـزَّل(10) الملائكةُ إلَّا تنزيلًا ملتبسًا(11) بالحقِّ، أي: الوجه الَّذي قدَّرناه واقتضته حكمتنا، ولا حكمة في إتيانكم؛ فإنَّكم لا تزدادون إلَّا عنادًا، وكذا لا حكمةَ في استئصالكم‼ مع أنَّه سبقت كلمتنا بإيمان بعضكم أو أولادكم، وسقط لفظ «{تَأْتِينَا}» لأبي ذَرٍّ في غير روايته عن المُستملي(12).
          ({شِيَعِ}) في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ}[الحجر:10] معناه: (أُمَمٌ) قاله أبو عبيدة (وَ) يقال (لِلأَوْلِيَاءِ أَيْضًا: شِيَعٌ) وقال غيره: شيعٌ؛ جمع شيعة؛ وهي الفرقة المتَّفقة على طريقٍ ومذهبٍ؛ مِن شاعه إذا تبعه(13)، ومفعول {أَرْسَلْنَا} في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} محذوفٌ، أي: أرسلنا رسلًا(14) من قبلك دلَّ الإرسال عليهم، وفيه تسليةٌ للنَّبيِّ صلعم حيث نسبوه إلى الجنون، أي: عادة هؤلاء مع الرُّسل ذلك.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) فيما وصله ابن أبي حاتمٍ من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى في سورة هودٍ: {وَجَاءهُ قَوْمُهُ} ({يُهْرَعُونَ}[هود:78]) أي: (مُسْرِعِينَ) إليه.
          وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} ({لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}[الحجر:75]) أي: (لِلنَّاظِرِينَ) قال ثعلبٌ: الواسم: النَّاظر إليك من قرنك إلى قدمك، وفيه معنى التَّثبُّت الَّذي هو الأصل في التَّوسُّم، وقال الزَّجَّاج: حقيقة المتوسِّمين في اللُّغة المتثبِّتين في نظرهم، حتَّى يعرفوا سمة الشَّيء وعلامَته؛ وهو استقصاء وجوه التَّعرُّف(15)، قال:
أَوَكلَّما وَردتْ عُكاظَ قبيلةٌ                     بعثتْ إليَّ عريفَها يتوسَّمُ
          وقال مجاهدٌ: معنى الآية: للمتفرِّسين، وقال قتادة: للمعتبرين، وقال مقاتلٌ: للمتفكِّرين، والمراد: صيحة العذاب الَّذي أخذ قوم لوطٍ داخلين في شروق الشَّمس، رفع جبريل ╕ مدينتهم إلى السَّماء ثمَّ قَلَبها، وسقط قوله: «وقال ابن عبَّاسٍ...» إلى «للنَّاظرين» لأبي ذَرٍّ.
          وقوله تعالى: {لَقَالُواْ إِنَّمَا} ({سُكِّرَتْ}[الحجر:15]) بتشديد الكاف، أي: (غُشِّيَتْ) بضمِّ الغين وتشديد الشِّين المكسورة المعجمتَين، وقيل: سُدَّت؛ يعني: لو فتحنا على هؤلاء المقترحين بابًا من السَّماء فظلُّوا فيه(16) صاعدين إليها مشاهدين لعجائبها، أو مشاهدين لصعود(17) الملائكة؛ وهو جوابٌ لقوله: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ}[الحجر:7] لقالوا لشدَّة عنادهم: إنَّما غُشِّيت أو سُدَّت أبصارنا بالسِّحر، وسقط من قوله: «وقال مجاهدٌ...» إلى هنا للحَمُّويي والكُشْميهَنيِّ.
          وقوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء} ({بُرُوجًا}[الحجر:16]) أي: (مَنَازِلَ لِلشَّمْسِ وَالقَمَرِ) قال عطيَّة: هي قصورٌ في السَّماء عليها الحرس.
          وقوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ} ({لَوَاقِحَ}[الحجر:22]) أي: (مَلَاقِحَ) و(مُلْقَـِحَةً) بفتح القاف وكسرها(18)، جمعَه؛ لأنَّه مِن: ألقح يلقح، فهو ملقحٌ، فحقُّه مَلاقِح، فحُذِفَت الميم تخفيفًا، وهذا قول أبي عبيدة، قال الجوهريُّ: ولا يُقال: ملاقح، وهو من النَّوادر، وقيل: لواقح؛ جمع لاقحٍ، يقال: لقحت الرِّيح إذا حملت الماء، وقال الأزهريُّ: حوامل تحمل السَّحَاب؛ كقولك: ألقحت النَّاقة فلقحت؛ إذا حملت الجنين في بطنها، فشُبِّهت الرِّيح بها، قال‼:
إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مضـرَّةٌ                     ضَروسٌ يهرُّ الناسَ أنيابُها عصلُ(19)
قال ابن عبَّاسٍ: { الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}[الحجر:22] الشَّجر والسَّحاب، وقال عبيد بن عميرٍ(20): يبعث الله الرِّيح المبشِّرة فتقمُّ الأرض قمًّا(21)، ثمَّ يبعث المثيرة فتثير السَّحاب، ثمَّ يبعث المؤلِّفة فتؤلِّف السَّحاب بعضه إلى بعض / فتجعله ركامًا، ثمَّ يبعث اللَّواقح فتلقِّح الشَّجر، وقال أبو بكر بن عيَّاشٍ: لا تقطر قطرة من السَّماء إلَّا بعد أن تعمل الرِّياح الأربعة فيه، فالصَّبا تهيِّجه، والشَّمال تجمعه، والجنوب تُذرُّه، والدَّبور تفرِّقه.
          وقوله: {مِّنْ} ({حَمَإٍ}[الحجر:26]): هو (جَمَاعَةُ حَمْأَةٍ) بفتح الحاء وسكون الميم (وَهْوَ الطِّينُ المُتَغَيِّرُ) الَّذي اسودَّ من طول مجاورة الماء.
          (وَالمَسْنُونُ): هو (المَصْبُوبِ) لييبس، كأنَّه أفرغ الحمأ فصوَّر فيه تمثال إنسانٍ أجوف فيبس، حتَّى إذا نُقِر صَلْصَلَ، ثمَّ غيَّره بعد ذلك طورًا بعد طورٍ، حتَّى سواه ونفخ فيه من روحه.
          {لاَ} ({تَوْجَلْ}[الحجر:53]) أي: لا (تَخَفْ) وكان خوفه من توقُّع مكروهٍ؛ حيث دخلوا(22) بغير إذنٍ في غير وقت الدُّخول.
          ({دَابِرَ}) في قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء}[الحجر:66] أي: (آخِرَ) {هَؤُلاء مَقْطُوعٌ} مستأصلٌ؛ يعني: يُستأصَلون عن آخرهم حتَّى لا يبقى منهم أحدٌ.
          ({لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ}[الحجر:79]) قال أبو عبيدة: (الإِمَامُ: كُلُّ مَا ائْتَمَمْتَ وَاهْتَدَيْتَ بِهِ) وسبق فيه زيادةٌ، حيث ذكر في هذه السُّورة فالتفت إليه، وسقط قوله: «{لَبِإِمَامٍ}...» إلى(23) هنا للحَمُّويي والكُشْميهَنيِّ.
          ({الصَّيْحَةُ}[الحجر:73]) أي: أخذتهم (الهَلَكَةُ)(24) وزاد أبو ذَرٍّ هنا: ”باب قوله“ جلَّ وعلا.


[1] في (د) و(م): «أي».
[2] في (د): «يصيِّره».
[3] في (ج): «للنبي محمد، وبهامشها: بخطِّه: لنَبِيِّي».
[4] في (د): «كلامهم».
[5] في (د): «ويضاف إلى الله ولكلِّ».
[6] في (م): «منعَه».
[7] في (د): «توعَّدهم».
[8] «المحفوظ»: ليس في (د).
[9] في (د): «السَّالفة».
[10] في (ب): «ننزل».
[11] في (ب): «متلبِّسًا».
[12] «وفي غير روايته عن المُستملي»: مثبتٌ من (د) و(م).
[13] في (د): «اتَّبعه».
[14] في (د): «رسلنا».
[15] في (د): «التَّعريف».
[16] «فيه»: مثبتٌ من (د) و(م).
[17] «لصعود»: ليست في (م).
[18] «بفتح القاف وكسرها»: ليس في (ج) و(د).
[19] في غير (د) و(س): «عضل»، وهو تصحيفٌ.
[20] في (د): «نميرٌ»، وهو تحريفٌ.
[21] في (د): «فتعمُّ الأرض عمًّا».
[22] في (د): «نزلوا».
[23] ليست في (ب).
[24] قوله: «{الصَّيْحَةُ}؛ أي: أخذتهم الهَلَكَةُ»، جاء في (د) و(م) سابقًا بعد لفظ: «فالتفت إليه»، وليس بصحيحٍ.