إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا

          4476- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الأزديُّ الفراهيديُّ _بالفاء_ البصريُّ، وسقط لأبي ذرٍّ «بن إبراهيم» قال: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) الدَّستُـَوائيُّ قال: (حَدَّثَنَا قَتَادَةُ) بن دِعَامة (عَنْ أَنَسٍ ☺ ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ).
          قال البخاريُّ: (وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ) بن خيَّاطٍ العُصْفُريُّ _بضمِّ العين وسكون الصَّاد المهملتين وضمِّ الفاء_ البصريُّ، على سبيل المذاكرة أو(1) التَّحديث: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) بتقديم الزَّاي مصغَّرًا، أبو معاوية البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ) هو ابن أبي عَروبة (عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ ☺ عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: يَجْتَمِعُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ) ولأبي ذرٍّ: ”ويجتمع“ بواو العطف على محذوفٍ بيَّنه في روايةٍ له (فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا) «لو» هي المتضمِّنة للتَّمنِّي(2) والطَّلب، أي: لو استشفعْنَا أحدًا إلى ربِّنا فيشفع لنا، فيخلِّصنا ممَّا نحن فيه من الكرب (فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَبُو(3) النَّاسِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ) وضع «شيئًا» موضع «أشياء» أي: المسمَّيات؛ إرادةً للتَّقصِّي واحدًا فواحدًا، حتَّى يستغرق المسمِّيات كلَّها (فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا) بالرَّاء من الإراحة (مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ) لهم: (لَسْتُ هُنَاكُمْ) أي: لست في المكانة والمنزلة التي تحسبونني؛ يريد: مقام الشَّفاعة (وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ) وهو قربان الشَّجرة والأكل منها (فَيَسْتَحِي) بكسر الحاء، ولأبي ذرٍّ: ”فيستحْيي“ بسكونها وزيادة تحتيَّةٍ (ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ‼ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ) بالإنذار وإهلاك قومه؛ لِأنَّ(4) آدم كانت رسالته بمنزلة التَّربية والإرشاد للأولاد، وليس المراد بقوله: «بعثه الله إلى أهل الأرض» عموم بعثته، فإنَّ ذا من خصوصيَّات نبيِّنا صلعم ، فإنَّ هذا إنَّما حصل له بالحادث الذي وقع؛ وهو انحصار الخلق في الموجودين(5) بعد هلاك سائر النَّاس بالطُّوفان، فلم يكن ذلك في أصل بعثته، وأمَّا الاستدلال على عموم رسالته بدعائه على جميع من في الأرض، فأُهلكوا بالغرق إلَّا أهل السَّفينة؛ لأنَّه لو لم يكن مبعوثًا إليهم لَمَا أُهلكوا؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسراء:15] وقد ثبت أنَّه أوَّل الرُّسل؛ فأُجيب بجواز أن يكون غيره أُرسِل إليهم في أثناء مدَّة نوحٍ، وبأنَّهم(6) لم يؤمنوا، فدعا على مَن لم يُؤمن مِن قومه وغيرهم(7) فأُجيبَ، لكن لم يُنقل أنَّه نُبِّئ في زمن نوحٍ ╕ غيره فالله أعلم (فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ) لهم: (لَسْتُ هُنَاكُمْ) قال عياضٌ: كنايةٌ عن أنَّ منزلته دون هذه المنزلة تواضعًا، أو أنَّ كلًّا منهم يشير إلى أنَّها ليست له بل لغيره (وَيَذْكُرُ سُؤَالَهُ / رَبَّهُ) المحكيَّ(8) عنه في القرآن بقوله تعالى: {رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}[هود:45] أي: وعدتني أن تنجِّي أهلي من الغرق، وسأل أن ينجِّيه من الغرق، وفي نسخةٍ: ”لربِّه“ (مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ) حالٌ من الضَّمير المضاف إليه في سؤاله(9)، أي: صادرًا عنه بغير علمٍ، أو من المضاف، أي: متلبِّسًا بغير علمٍ، و«ربَّه» مفعول «سؤالَه» وكان يجب عليه ألَّا يسأل، كما قال تعالى: {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[هود:46] أي: ما شعرتَ مَنِ المرادُ بالأهل _وهو من آمن وعمل صالحًا_ وأنَّ ابنك عمل غير صالح (فَيَسْتَحْيِي) ولغير أبي ذرٍّ بياءٍ واحدةٍ وكسر الحاء (فَيَقُولُ: ائْتُوا خَلِيلَ الرَّحْمَنِ) إبراهيم ╕ (فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلَّمَهُ اللهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ، فَيَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ نَفْسٍ، فَيَسْتَحْيِي مِنْ رَبِّهِ) ولغير أبي ذرٍّ: ”فيستحِي“ بياءٍ واحدةٍ وكسر الحاء، ولا يقدح ذلك في عصمته؛ لكونه خطأً، وإنَّما عدَّه من عمل الشَّيطان، وسمَّاه(10) ظلمًا، واستغفر عنه(11) _كما في الآية_ على عادتهم في استعظام محقَّراتٍ فرطت منهم (فَيَقُولُ: ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَهُ، وَكَلِمَةَ اللهِ) لأنَّه وُجِد بأمره تعالى دون أبٍ (وَرُوحَهُ) أي: ذا روحٍ صَدَر منه، لا بتوسُّط ما يجري مجرى الأصل والمَّادة له، وقيل: لأنَّه كان يحيي الأموات والقلوب (فَيَقُولُ) أي: بعدما يأتونه(12): (لَسْتُ هُنَاكُمْ، ائْتُوا مُحَمَّدًا صلعم ) سقطت التَّصلية لغير أبي(13) ذرٍّ (عَبْدًا) بالنَّصب، ولأبي ذرٍّ: ”عبدٌ“(14) (غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) عن سهوٍ وتأويلٍ (وَمَا تَأَخَّرَ) بالعصمة، أو أنَّه مغفورٌ له غير مؤاخذٍ بذنبٍ لو وقع (فَيَأْتُونِي) ولأبي ذرٍّ: ”فيأتونني“ بنونين، وفيه إظهار شرف نبيِّنا ╕ كما لا يخفى‼ (فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ) بالرَّفع عطفًا على «أنطلقُ» ولأبي ذرٍّ: ”فيؤذنَ“ بالنصب عطفًا على المنصوب في قوله: «حتى أستأذنَ» (فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ) ولغير أبي ذرٍّ: ”ما شاء الله“ (ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ) وسقط(15) لأبي ذرٍّ لفظة «رأسك» (وَسَلْ) بفتح السِّين من غير ألف وصلٍ (تُعْطَهْ) بهاءٍ بعد الطَّاء (وَقُلْ يُسْمَعْ) أي: قولك(16) (وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ) أي: تُقبَل شفاعتك (فَأَرْفَعُ رَأْسِي) من السُّجود (فَأَحْمَدُهُ) تعالى (بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ) بضمِّ الميم (ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِيَ) _بفتح الياء_ تعالى (حَدًّا) أي: يبيِّن لي قومًا أشفع فيهم، كأن يقول: شفَّعتك فيمن أخلَّ بالصَّلوات(17) (فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ) تعالى (فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي... مِثْلَهُ) أي: أفعل مثل ما سبق من السُّجود، ورفع الرَّأس، وغيره (ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا) كأن يقول: شفَّعتك فيمن زنى، أو فيمن شرب الخمر مثلًا (فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ(18)، ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ: مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ القُرْآنُ) أي: حكم بحبسه أبدًا (وَوَجَبَ عَلَيْهِ الخُلُودُ) وهم الكفَّار (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ) البخاريُّ: (إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ القُرْآنُ؛ يَعْنِي: قَوْلَ اللهِ تَعَالَى) أي: في الكفَّار: ({خَالِدِينَ فِيهَا}[البقرة:162]) وسقط لأبي ذرٍّ لفظ «إلَّا من» واستُشكل سياق هذا الحديث من جهة كون المطلوب الشَّفاعة؛ للإراحة من موقف العرصات؛ لِمَا يحصل لهم من ذلك الكرب الشَّديد، لا للإخراج(19) من النَّار، وأجيب بأنَّه قد انتهت حكاية الإراحة عند لفظ «فيؤذن لي» وما بعده هو زيادةٌ على ذلك، قاله الكِرمانيُّ، وقال الطِّيبيُّ: لعلَّ المؤمنين صاروا فرقتين؛ فرقةً سيق بهم إلى النَّار من غير توقُّفٍ، وفرقةً حُبِسوا في المحشر واستَشْفعوا به صلعم ، فخلَّصهم ممَّا هم فيه وأدخلهم الجنَّة، ثمَّ شرع في شفاعة الدَّاخلين النَّار زُمَرًا بعد زُمَرٍ، كما دلَّ عليه قوله: «فيَحدُّ لي حدًّا...» إلى آخره، فاختَصَر الكلام، وقال في «فتوح الغيب»: إيراد قصَّةٍ واحدةٍ في مقاماتٍ متعدِّدةٍ بعباراتٍ مختلفةٍ وأنحاءٍ شتًّى بحيث لا تغيير ولا تناقض ألبتَّة من فصيح الكلام وبليغه، وهو بابٌ من(20) الإيجاز المختصِّ بالإعجاز، ويحتاج في التَّوفيق إلى قانونٍ يُرجَع إليه، وهو أن يُعمَد(21) إلى الاقتصاصات المتفرِّقة ويُجعل لها أصلٌ بأن يؤخذ من المباني ما هو أجمع للمعاني، فما نقص فيه من تلك المعاني شيءٌ يُلحق به. انتهى. وقال في «شرح المشكاة»: أو يُراد بالنَّار: الحبس والكربة(22)، وما يكونون فيه من الشِّدَّة، ودنوِّ الشَّمس إلى رؤوسهم / وحرِّها وإلجامهم بالعرق، وبالخروج: (23) الخلاص منها.
          وهذا الحديث يأتي إن شاء الله تعالى في «التَّوحيد» [خ¦7510]، وأخرجه مسلمٌ في «الإيمان»، والنَّسائيُّ في «التَّفسير»، وابن ماجه في «الزُّهد».


[1] في (ب): «و».
[2] في (م): «للنَّهي» وهو تحريفٌ.
[3] في (ل): «أبُ».
[4] في (د): «فإنَّ».
[5] زيد في (د): «من».
[6] في (د): «وأنَّهم».
[7] «وغيرهم»: سقط من (د) و(م).
[8] في (د): «المكنيَّ».
[9] قال الشيخ قطة ☼ : تأمل هذا الإعراب فإنه على ما يظهر بعيد عن الصواب.
[10] في (ص): «وعدَّه».
[11] في (ب) و(س): «منه».
[12] زيد في (د): «لهم».
[13] في (م): «لأبي»، وكذا في «اليونينيَّة».
[14] قوله: «بالنَّصب، ولأبي ذرٍّ: عبدٌ» سقط من (د).
[15] في (د): «وسقطت».
[16] في غير (د) و(س): «قوله».
[17] في غير (د) و(ص): «بالصَّلاة».
[18] زيد في (ب) و(س): «ثمَّ أعود الثَّالثة».
[19] في (ص): «الإخراج».
[20] في (م): «من باب».
[21] في (د) و(م): «يعتمد».
[22] في (د): «والكرب».
[23] زيد في (س) و(ص): «إلى».