إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

كتاب النكاح

          ░░67▒▒ ( ╖ كِتَابُ النِّكَاحِ): هو: لغةً الضَّمُّ والتَّداخُلُ. وقال المُطَرِّزِيُّ: وهو(1) الوطءُ حقيقةً، ومنه قول الفَرَزْدَقِ:
إذا سَقَى اللهُ قومًا صَوْبَ غادِيَةٍ                     فلَا سَقَى اللهُ أرضَ الكوفَةِ المطَرَا
التَّاركينَ علَى طُهْرٍ نساءَهُم                     والنَّاكِحينَ بِشَطَّيْ دِجْلةَ البقَرَا
وهو مجازٌ في العقدِ؛ لأنَّ العقدَ فيه ضمٌّ، والنِّكاحُ هو الضمُّ‼ حقيقةً، قال:
ضمَمْتُ إِلى صَدْري مُعَطَّر صَدْرِها                      كمَا نكحَتْ أمُّ العَلَاءِ صَبيَّها
أي: كما ضمَّتْ، أو لأنَّه سببه فجازتِ الاستعارةُ لذلك. وقال بعضهم: أصلهُ لزومُ شيءٍ لشيءٍ مُستعليًا عليه، ويكون في المحسوسَاتِ وفي المعانِي، قالوا: نكحَ المطرُ الأرضَ، ونكحَ النُّعاسُ عينيهِ، ونكحتُ القمحَ في الأرضِ، إذا حرثتَها وبذرتَهُ فيها، ونكحتِ الحصاةُ أخفافَ الإبلِ. قال المتنبِّي:
أنْكحْتُ صُمَّ حَصَاها خُفَّ يَعْمَلَةٍ                     تَغَشْمَرَتْ بِي إليْكَ السَّهلَ والجَبَلا
يقال: أنكحُوا الحَصَى أخفافَ الإبلِ إذا سارُوا، واليَعْمَلة: النَّاقةُ النَّجيبَةُ المطبوعةُ على العملِ، والتَّغَشمُرُ: الأخذُ قَهرًا. وقال الفرَّاء: العربُ تقول: نُكْحُ(2) المرأةِ _بضم النون_ بُضْعُهَا، وهو كنايَةٌ عن الفرجِ، فإذا قالوا: نَكَحَها، أرادُوا أصَابَ نُكْحَها(3).
          قال ابنُ جِنِّيٍّ: سألتُ أبا عليٍّ الفَارسيَّ عن قولهم: نَكَحَها؟ فقال: فرَّقتِ العربُ فرْقًا لطيفًا يعرفُ به موضعُ العقدِ من الوطءِ، فإذا قالوا: نكحَ فلانٌ فلانةً، أو بنتَ فلانٍ، أو أختهُ أرادوا تزوَّجَها وعقدَ عليها، وإذا(4) قالوا: نكحَ امرأتَهُ، أو زوجتَهُ لم يريدُوا إلَّا المجامعةَ لأنَّ بذكرِ المرأةِ أو الزَّوجةِ يُستغنَى عن العقدِ، واختلفَ أصحابُنَا في حقيقتهِ على ثلاثةِ أوجُهٍ حكاهَا القاضِي حسينٌ في «تعليقته»(5) أصحُّها: أنَّه حقيقةٌ في العقدِ، مجازٌ في الوطءِ، وهو الَّذي صحَّحَه القاضِي أبو الطَّيِّبِ وقطع به المتولِّي وغيره، واحتجَّ له بكثرةِ ورودهِ في الكتابِ والسُّنَّة للعقدِ، حتَّى قيل: إنَّه لم يردْ / في القرآنِ إلَّا للعقد، ولا يردُ مثل قوله: {حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}[البقرة:230] لأنَّ شرطَ الوطءِ في التَّحليلِ إنَّما ثبتَ بالسُّنَّةِ، وإلَّا فالعقدُ لا بدَّ منه لأنَّ قوله تعالى: {حَتَّىَ تَنكِحَ} معناه حتَّى تتزوَّجَ، أي: يعقد عليها، ومفهومُه أنَّ ذلك كافٍ بمجرَّدهِ، لكن بيَّنتِ(6) السُّنَّة أن لا عبرةَ بمفهومِ الغايةِ بل لا بدَّ بعد العقدِ من ذوقِ العُسَيلةِ. قال ابنُ فارسٍ: لم يردِ النِّكاحُ في القرآنِ إلَّا للتَّزويجِ(7)، إلَّا قوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ}[النساء:6] فإنَّ المراد(8) به الحُلم(9). والثَّاني: أنَّه حقيقةٌ في الوطءِ مجازٌ في العقدِ، وهو مذهبُ الحنفية. والثَّالث: أنَّه حقيقةٌ فيهما بالاشتراكِ، ويتعيَّنُ المقصودُ بالقرينةِ، كما مرَّ عن أبي علي، وذكر ابن القطَّاعِ للنكاحِ أكثرَ من ألف اسمٍ، وفوائدُهُ(10) كثيرةٌ منها: أنَّه سببٌ لوجودِ النَّوعِ الإنسانيِّ، ومنها: قضاءُ الوطرِ بنيلِ اللَّذَّةِ‼ والتَّمتُّعِ بالنِّعمةِ، وهذه هي الفائدةُ(11) الَّتي في الجنةِ؛ إذ لا تناسُلَ فيها، ومنها: غضُّ البصرِ وكفُّ النَّفسِ عن الحرامِ... إلى غيرِ ذلك.


[1] في (د): «هو».
[2] في (م): «نكحت».
[3] في (م) و(د): «نكاحها».
[4] في (د): «فإذا».
[5] في (ب): «تعليقيه»، وفي (ص) و(د): «تعليقه».
[6] في (س): «ثبتت».
[7] في (م): «للتزوج».
[8] في (م) و(د): «فالمراد».
[9] في (ص): «الحكم».
[10] في (د): «وفوائد».
[11] في (ص): «الغاية».