إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

سورة براءة

          ░░░9▒▒▒ (سورة بَرَاءَةَ) مدنيَّةٌ، ولها أسماءٌ أُخَر تزيد على العشرة؛ منها: التَّوبة، والفاضحة، والمُقَشْقِشة؛ لأنَّها تدعو إلى التَّوبة، وتفضح(1) المنافقين، وتقشقشهم، أي: تَبْرَأُ منهم، وهي من آخر ما نزل، ولم يكتبوا بسملةً أوَّلها؛ لأنَّها أمانٌ، وبراءةٌ نزلت لرفعه، أو توفِّي رسول الله صلعم ولم يبيِّن موضعها، وكانت قصَّتها تشابه قصَّة الأنفال؛ لأنَّ فيها ذكر العهود، وفي براءة نبذها، فضُمَّت إليها.
          ({وَلِيجَةً}) يريد قوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}[التوبة:16] (كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ) وهي «فعيلة» من الولوج / ؛ كالدَّخيلة، وهي نظير البطانة والدَّاخلة، والمعنى: لا ينبغي أن يوالوهم ويفشوا إليهم(2) أسرارهم، وسقط قوله: «{وَلِيجَةً}...» إلى آخره لأبي ذرٍّ، وثبت لغيره.
          ({الشُّقَّةُ}) في قوله: {بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ}[التوبة:42]: هي (السَّفَرُ) وقيل: هي المسافة التي تُقطَع بمشقَّة؛ يقال: شُقَّةٌ شاقَّةٌ، أي: بعدت عليهم، الشَّاقَّة: البعيدة، أي: يشقُّ على الإنسان سلوكها.
          (الخَبَالُ) في قوله: {مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً}[التوبة:47]: (الفَسَادُ) والاستثناء يجوز أن يكون منقطعًا، أي: أنَّه لم يكن في عسكر رسول الله صلعم خبالٌ فيزيد المنافقون فيه(3)، وكأنَّ المعنى: ما زادوكم قوَّةً ولا شدَّةً لكن خبالًا، وأن يكون متَّصلًا، وذلك أنَّ عسكر الرَّسول صلعم في غزوة تبوك كان فيهم منافقون كثيرٌ، ولهم لا محالة خَبَالٌ، فلو خرج هؤلاء لالتأموا مع الخارجين، فزاد الخبال(4) (وَالخَبَالُ: المَوْتُ) كذا في جميع الرِّوايات، والصَّواب: المُوتَة؛ بضمِّ الميم وزيادة هاءٍ آخره؛ وهو ضربٌ من الجنون.
          وقوله تعالى: ({وَلاَ تَفْتِنِّي}[التوبة:49]) أي: (لَا(5) تُوَبِّخْنِي) من التَّوبيخ، ولأبي ذرٍّ عن المُستملي: ”لا توهِنِّي“ بالهاء وتشديد النُّون من الوهن؛ وهو الضَّعف، ولابن السَّكن: ”ولا تؤثِّمْني“ بمثلَّثةٍ مشدَّدةٍ وميمٍ(6) ساكنةٍ من الإثم، وصوَّبه القاضي عياضٌ.
          ({كَرْهًا}) بفتح الكاف (وَ{ كَرْهًا}) بضمِّها: (وَاحِدٌ) في المعنى، ومراده: قوله تعالى: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}[التوبة:53] وسقط(7) «{كَرْهًا}...» إلى آخره لأبي ذرٍّ(8).
          ({مُدَّخَلاً}) بتشديد الدَّال؛ يريد: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً} أي: (يُدْخَلُونَ فِيهِ) والمُدَّخل: السِّرب في الأرض.
          وقوله تعالى: {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ} ({يَجْمَحُونَ}[التوبة:57]) أي: (يُسْرِعُونَ) إسراعًا لا يردُّهم شيءٌ، كالفرس الجموح.
          وقوله: {وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} ({وَالْمُؤْتَفِكَاتِ}[التوبة: 70]) وهي قريات قوم لوطٍ (ائْتَفَكَتْ) أي: (انْقَلَبَتْ بِهَا) أي: القرياتِ (الأَرْضُ) فصار عاليها سافلها، وأُمطِرُوا حجارةً من سجيلٍ.
          ({أَهْوَى}) يريد: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} بسورة النَّجم[النجم:53] يقال: (أَلْقَاهُ فِي هُوَّةٍ) بضمِّ الهاء وتشديد الواو، أي: مكانٍ عميقٍ، وذكرها استطرادًا.
          وقوله تعالى: {فِي جَنَّاتِ} ({عَدْنٍ}[التوبة:72]) أي: (خُلْدٍ) بضمِّ الخاء المعجمة وسكون اللَّام؛ يقال: (عَدَنْتُ بِأَرْضٍ، أَيْ: أَقَمْتُ) بها (وَمِنْهُ: مَعْدِنٌ)‼ وهو الموضع الذي يُستَخرج منه الذَّهب والفضة ونحوهما (وَيُقَالُ:) فلانٌ (فِي مَعْدِنِ صِدْقٍ) أي: (فِي مَنْبِتِ صِدْقٍ) كأنَّه صار مَعدِنًا له للزومه له، وسقط لأبي ذرٍّ من «عدنت...» إلى آخره(9).
          ({الْخَوَالِفِ}) يريد قوله: {رَضُواْ (10) بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ}[التوبة:87] وفسَّره بقوله: (الخَالِفُ: الَّذِي خَلَفَنِي فَقَعَدَ بَعْدِي، وَمِنْهُ) أي: من هذا اللفظ (يَخْلُفُهُ فِي الغَابِرِينَ) قال ╕ في حديث أمِّ سلمة: «اللهمَّ اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديِّين، واخلفه في عقبه في الغابرين» رواه مسلمٌ، قال النَّوويُّ أي: الباقين (وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ مِنَ الخَالِفَةِ) وهي المرأة (وَإِنْ) بالواو(11)، ولأبي ذرٍّ: ”فإن“ (كَانَ) خوالف (جَمْعَ الذُّكُورِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عَلَى تَقْدِيرِ جَمْعِهِ) على «فواعل» (إلَّا حَرْفَانِ: فَارِسٌ وَفَوَارِسُ، وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ) قاله أبو عبيدة، وزاد ابن مالكٍ: شاهقٌ وشواهقُ، وناكسٌ ونواكسُ، وداجنٌ ودواجنُ، وهذه الخمسة جمع «فاعل» وهو شاذٌّ، ولأبي ذر: ”وهالكٌ في الهوالك“(12) والمفهوم من أوَّل كلام البُّخاريِّ: أنَّ «خوالف» جمع «خالف» وحينئذٍ إنَّما يجوز أن يكون النِّساء إذا كان يُجمَع «الخالفة» على «خوالف» وإنَّما «الخالف» يُجمَع على «الخالفين» بالياء والنُّون، والمشهور في «فواعل» أنَّه جمع «فاعلة» فإن كان من صفة النِّساء؛ فواضحٌ، وقد تُحذَف الهاء في صفة المفرد من النِّساء، وإن كان من صفة الرِّجال؛ فالهاء للمبالغة؛ يقال: رجل خالفة(13): لا خير فيه، والأصل في جمعه بالنُّون كما مرَّ، والمراد بـ {الْخَوَالِفِ} في الآية: النِّساء والرِّجال العاجزون والصِّبيان، فجُمِع بجمع(14) المؤنَّث تغليبًا؛ لكونهنَّ أكثر في ذلك من غيرهنَّ.
          وقوله: {وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ} ({الْخَيْرَاتُ}[التوبة:88]: وَاحِدُهَا: خَيْرَةٌ) بفتح الخاء وسكون التَّحتيَّة آخرها هاءُ تأنيثٍ (وَهْيَ الفَوَاضِلُ) بالضَّاد المعجمة، قاله أبو عبيدة.
          قوله: {وَآخَرُونَ} ({مُرْجَوْنَ}[التوبة:106]) أي: (مُؤَخَّرُونَ) لأمر الله ليقضي فيهم ما هو قاضٍ، وهذه ساقطةٌ لأبي ذرٍّ.
          (الشَّفَا) بفتح(15) المعجمة والفاء مقصورًا، يريد قوله تعالى: {عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}[التوبة: 109] وفسَّر الشَّفا بقوله: (شَفِيرٌ) / ولأبي ذرٍّ: ”الشَّفير“ ثمَّ قال: (وَهْوَ) أي: الشَّفير (حَدُّهُ) بالدَّال بعد الحاء المهملتين، وللكُشْميهَنيِّ(16): ”وهو حرفه“ أي: جانبه.
          (وَالجُرُفُ: مَا تَجَرَّفَ مِنَ السُّيُولِ وَالأَوْدِيَةِ) أي: يحفر بالماء فصار واهيًا.
          ({هَارٍ}) أي: (هَائِرٍ) يقال: انهارت البئر؛ إذا تهدَّمت(17)، قال القاضي: وإنَّما وضع شفا الجرف _وهو ما جرفه الوادي_ الهائر في مقابلة التَّقوى؛ تمثيلًا لِمَا بنوا عليه أمر دينهم في البطلان وسرعة الانطماس، ثمَّ رشَّحه بانهياره به في النَّار، ووضعه(18) في مقابلة الرِّضوان؛ تنبيهًا على أنَّ تأسيس ذلك على أمر يحفظه عن النار(19)، ويوصله إلى رضوان الله تعالى ومقتضياته التي(20) الجنة أدناها، وتأسيس هذا‼ على ما هم بسببه(21) على صدد الوقوع في النَّار ساعةً فساعةً، ثمَّ إنَّ مصيرهم إلى النَّار لا محالة. انتهى. (يُقَالُ: تَهوَّرَتِ البِئْرُ؛ إِذَا انْهَدَمَتْ، وَانْهَارَ: مِثْلَه) كذا لأبوي ذرٍّ والوقت، وسقط لغيرهما(22).
          وقوله: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} ({لأوَّاهٌ}[التوبة:114]) أي: (شَفَقًا وَفَرَقًا) كنايةً عن فرط ترحُّمه ورقَّة قلبه، وفيه بيان الحامل له على الاستغفار لأبيه مع شكاسته عليه (وَقَالَ الشَّاعِرُ) وهو المثقَّب _بتشديد القاف المفتوحة_ العبديُّ، واسمه: جحاش بن عائذ(23) بن محصن، وسقط لفظ «الشَّاعر» لغير أبي ذرٍّ (إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ) بفتح الهمزة والحاء المهملة، من رحلت الناقة أرحلها؛ إذا شددتَ الرَّحل على ظهرها، والرَّحل: أصغر من القتب.
          (تَأَوَّهُ آهَةَ) بمدِّ الهمزة، وللأصيليِّ: ”أَهَّة“ (الرَّجُلِ الحَزِينِ) بتشديد الهاء وقصر الهمزة، قال الحريريُّ في «درَّة الغوَّاص»: يقولون في التَّأوُّه: أَوَّه(24)، والأفصح أن يقال: أُوْهَُِ♣ بكسر الهاء وضمِّها وفتحها، والكسر أغلب، وعليه قول الشَّاعر:
فأَوْهٍ لذكراها إذا ما ذكرتها                     . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد شدَّد بعضهم الواو، فقال: أوَّه، ومنهم من حذف الهاء _وكسر الواو_ فقال: أوَّ، وتصريف الفعل منها: أوَّه وتأوَّه، والمصدر الآهة، ومنه قول مثقَّبٍ العبديِّ:
إذا ما قُمْتُ أَرْحلُها بِلَيْلٍ                     . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت، وهذا البيت من جملة قصيدة أوَّلها:
أفاطمُ قبل بينِكِ متِّعيني                     ومنعك ما سألت كأن تبيني
ولا تَعِدِي مواعدَ كاذباتٍ                     تمرُّ بها رياحُ الصَّيف دوني
فإنِّي لو تخالفني شِمالي                     لَمَا أتبعتُها أبدًا يميني


[1] في (د): «وتقبِّح».
[2] في (ج): «ويفشون أسرارهم».
[3] «فيه»: ليس في (ص).
[4] «فزاد الخبال»: ليس في (د).
[5] «لا»: ليس في (د).
[6] في (د): «وهي»، وهو تحريفٌ.
[7] زيد في (ص): «قوله».
[8] «وسقط { كَرْهًا...} إلى آخره لأبي ذرٍّ»: سقط من (د) و(م).
[9] قوله: «وسقط لأبي ذرٍّ من: عدنت... إلى آخره»، جاء في (د) بعد قوله: «يقال: عدنت».
[10] «رضوا»: ليس في (د).
[11] «بالواو»: ليس في (د).
[12] «ولأبي ذرٍّ: وهالك في الهوالك»، جاء في (د) و(ص) بعد قوله: «وداجنٌ ودواجن».
[13] في (د): «خالف».
[14] في (د): «جمع».
[15] زيد في (س) و(ص): «الشِّين».
[16] عزى في اليونينة هذه الرواية لأبي ذر مطلقًا.
[17] في (د): «انهدمت».
[18] في (د): «وضعف»، وفي (م): «ووصفه».
[19] «عن النَّار»: ليس في (د).
[20] «التي»: سقط من (ص).
[21] «على ماهم بسببه»: ليس في (د).
[22] قوله: «يُقَالُ: تَهوَّرَتِ البِئْرُ؛ إِذَا انْهَدَمَتْ، وَانْهَارَ: مِثْلَه كذا لأبوي ذرٍّ والوقت، وسقط لغيرهما»، سقط من (د) و(ص)، وجاء في سائر النُّسخ في نهاية الشَّرح بعد قوله: «أبدًا يميني»، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[23] في (د): «عابد»، ولعلَّه تصحيفٌ.
[24] في (د): «أوَّاه».