إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

سورة الفرقان

          ░░░25▒▒▒ (سُورَةُ الفُرْقَانِ) مكِّيَّةٌ، وآيُها سبعٌ وسبعونَ آيةً، و«الفُرقان»: الفارقُ بين الحلال والحرام، الذي جمَّت(1) منافعُه، وعمَّت فوائدُه.
          ( ╖ ) ثبتت البسملةُ لأبي ذرٍّ. (قَالَ) ولأبي ذر: ”وقال“ (ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ فيما وصله ابنُ جريرٍ في قوله: ({هَبَاء مَّنثُورًا}[الفرقان:23]) هو (مَا تَسْفِي بِهِ الرِّيحُ) وتَذْرِيهِ مِنَ التُّراب، و«الهباء» و«الهبوة»: التُّراب الدقيق، قاله ابن عَرفة، وقال الخليلُ والزَّجَّاج: هو مثلُ الغُبارِ الداخل في الكُوَّة، يتراءى مع ضوء الشمس، فلا يُمَسُّ بالأيدي ولا يُرى في الظِّلِّ، و{مَّنثُورًا} صفته(2)، شُبِّه به عملُهم المحبط في حقارتِه وعدمِ نفعِه ثَمَّ بالمنثورِ منه في انتشارِه؛ بحيث لا يمكن نظمُه، فجِيءَ بهذه الصفة لتفيدَ(3) ذلك، وقال الزَّمخشريُّ: أو مفعولٌ ثالثٌ لـ {فَجَعَلْنَاهُ} أي: جعلناه جامعًا لحقارة الهباء والتناثر؛ كقوله: { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[البقرة:65] أي: جامعينَ للمسخ والخسء، وسقط للأَصيلي لفظ «به» من قوله: تَسفِي‼ به الرِّيح.
          ({مَدَّ الظِّلَّ}) في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}[الفرقان:45] قال ابنُ عبَّاس فيما وصله ابنُ أبي حاتم عنه: هو (مَا بَيْنَ طُلُوعِ الفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ) قال في «الأنوار»: وهو أطيبُ الأحوال، فإنَّ الظلمة الخالصة تُنَفِّرُ الطبعَ وتسُدُّ النظرَ، وشعاعُ الشمس يُسَخِّنُ الجوَّ ويبهرُ البصر؛ ولذلك وصف به الجنَّة فقال: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ}[الواقعة:30]. انتهى. والظِّلُّ: عبارةٌ عن عدم الضوء ممَّا من شأنِه أن يُضيء، وجعله ممدودًا؛ لأنَّه ظِلٌّ لا شمس معه، واعترضه ابنُ عَطيَّة: بأنَّه لا خصوصيَّة لهذا الوقت بذلك، بل مِن قبل(4) غروب الشمس مدةٌ يسيرةٌ يبقى فيها ظلٌّ ممدودٌ مع أنَّه في نهار، وفي سائر أوقات النهار ظِلالٌ متقطِّعة، وأُجيب بأنَّه ذَكَرَ تفسير الخصوص من الآية؛ لأنَّ في بقيَّتها {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا}[الفرقان:45] فتعيَّن الوقت الذي بعد طلوع الفجر، واعتَرض ابنُ عطيَّة أيضًا: بأنَّ الظِّلَّ إنَّما يُقال لِمَا يَقَعُ بالنهار، والظِّلُّ الموجود في هذا الوقت مِن بقايا الليل، وأُجيب بالحمل على المجاز، والرؤية هنا بصريَّة أو قلبيَّة، واختارَه الزَّجَّاج / ، والمعنى: أَلَمْ تَعْلَم، والخطابُ وإن كان ظاهره للرسول صلعم هو عامٌّ في المعنى؛ لأنَّ الغرض بيانُ نِعَمِ الله بالظِّلِّ، وجميع المكلَّفين مشتركون في تنبيهِهِم لذلك.
          ({سَاكِنًا}) يريد قولَه: {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا}[الفرقان:45] قال ابن عبَّاسٍ فيما وصله ابنُ أبي حاتم أي: (دَائِمًا) أي: ثابتًا لا يزول ولا تُذهِبُه الشمس، قال أبو عُبيدة: الظِّلُّ: ما نسخَتْه(5) الشَّمسُ، وهو بالغَداة، والفَيْءُ: ما نَسَخَ الشَّمسَ، وهو بعدَ الزوالِ، وسُمِّيَ فيئًا لأنَّه فاء(6) من الجانب الغربي إلى الشرقي(7).
          ({عَلَيْهِ دَلِيلًا}[الفرقان:45]) قال ابن عبَّاسٍ فيما وصله ابن أبي حاتم أيضًا أي: (طُلُوعُ الشَّمْسِ) دليلُ حصولِ الظِّلِّ، فلو لم تكنِ(8) الشَّمس؛ لَمَا عُرِفَ(9) الظِّلُّ، ولولا النور ما عُرِفَ الظُّلمةُ، والأشياءُ تُعرَفُ بأضدادِها(10).
          ({خِلْفَةً}) في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً}[الفرقان:62] قال ابن عبَّاسٍ فيما وصله ابن أبي حاتم: (مَنْ فَاتَهُ مِنَ اللَّيْلِ عَمَلٌ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ، أَوْ فَاتَهُ بِالنَّهَارِ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ) وجاء رجلٌ إلى عمرَ بنِ الخطَّاب فقال: فاتتني الصلاةُ الليلة، فقال: أدرك ما فاتَكَ من ليلتكَ في نهارِك؛ فإنَّ الله تعالى جعل الليلَ والنَّهارَ خِلْفَةً، أو يَخْلُفُ أحدُهما الآخرَ، يتعاقبانِ إذا ذهب هذا؛ جاء هذا، وإذا جاء هذا؛ ذهب ذاك، و{خِلْفَةً}: مفعولٌ ثانٍ لـ {جَعَلَ} أو حالٌ.
          (وَقَالَ الحَسَنُ) البصريُّ فيما وصله سعيدُ بن منصورٍ في قوله تعالى: ({هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا}[الفرقان:74]) وزاد أبو ذرٍّ: ”{وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}“[الفرقان:74] أي: (فِي طَاعَةِ اللهِ) ولأبي ذرٍّ والأصيليِّ: ”من طاعة الله“(11) (وَمَا شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ المُؤْمِنِ أَنْ يَرَى)‼ وللأصيليِّ(12): ”لعين مؤمن“، وله ولأبي ذرٍّ: ”من أن يرى“ (حَبِيبَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ) قال في «الأنوار»: فإنَّ المؤمن إذا شارَكَه أهله في طاعة الله؛ سُرَّ بهم قلبُه، وقَرَّ بهم عينُه؛ لما يرى مِن مساعدتِهِم له في الدِّين، وتوقُّعِ لحوقِهِم به في الجنَّة، و{مِنْ}: ابتدائيَّة أو بيانيَّة، كقولك: رأيت منك أسدًا. انتهى. والمراد قرة أعين لهم في الدين، لا في الدنيا من المال والجمال، قال الزَّجَّاج: يقال: أَقَرَّ اللهُ عينَك، أي: صادف فؤادُك ما تُحبُّه، وقال المفضل: بَرَّد دمعتَها، وهي التي تكون مع السرور، ودمعةُ الحُزْنِ حارَّةٌ.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) فيما وصله ابن المنذر مفسِّرًا: ({ثُبُورًا}) في قوله: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}[الفرقان:13] أي: يقولون: (وَيْلًا) بواو مفتوحة فتحتيَّة ساكنة، وقال الضَّحَّاك: هلاكًا، فيقولون: واثبوراه تَعَالَ فهذا حينُكَ، فيقال لهم: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}[الفرقان:14] أي: هلاكُكُم أكثرُ مِن أنْ تدعوا مرَّةً واحدةً، فادعوا أدعيةً كثيرةً، فإنَّ عذابَكم أنواعٌ كثيرةٌ، كلُّ نوعٍ منها ثُبُورٌ لشِدَّته، أو لأنَّه يتجدَّد؛ لقوله تعالى: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ}[النساء:56] أو لأنَّه لا ينقطع، فهو في كلِّ وقتٍ(13) ثُبُورٌ.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) غيرُ ابنِ عبَّاسٍ مفسِّرًا لقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا}[الفرقان:11] (السَّعِيرُ مُذَكَّرٌ) لفظًا، أو من حيث إنَّ «فعيلًا» يُطلق على المذكَّر والمؤنَّث (وَالتَّسَعُّرُ(14) وَالاِضْطِرَامُ) معناهما: (التَّوَقُّدُ الشَّدِيدُ) وعن الحسن: السعيرُ اسمٌ مِن أسماء جهنَّم.
          ({تُمْلَى عَلَيْهِ}) في قوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ}[الفرقان:5] أي: (تُقْرَأُ عَلَيْهِ(15)، مِنْ أَمْلَيْتُ) بتحتيَّة ساكنة بعد اللَّام (وَأَمْلَلْتُ) «بلام» بدل: «التحتيَّة»، والمعنى: أنَّ هذا القرآن ليس مِنَ الله، إنَّما سطَّرَه الأوَّلون، فهي تقرأ عليه ليحفَظَها(16).
          (الرَّسُّ) في قوله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ}[الفرقان:38] أي: (المَعْدِنُ، جَمْعُهُ) بسكون الميم، ولأبي ذرٍّ: ”جميعه“ بكسرها ثم تحتيَّة (رِسَاسٌ) بكسر الرَّاء، قاله أبو عُبيدة، وقيل: أصحابُ الرَّسِّ ثمودُ؛ لأنَّ الرَّسَّ البئر التي لم تُطْوَ، وثمود أصحاب آبارٍ(17)، وقيل: الرَّسُّ: نهرٌ بالمشرق، وكانت قُرى أصحاب الرَّسِّ على شاطئِ النهر، فبعث اللهُ إليهم نبيًّا من أولاد يهوذابن يعقوب، فكذَّبوه، فلبِثَ فيهم زمانًا، فشكى إلى الله منهم، فحفروا بئرًا ورسُّوه(18) فيها، وكانوا عامَّة يومهم يسمعون أنينَ نبيِّهم، وهو يقول: سيدي، ترى ضِيقَ مكاني، وشدَّة كَرْبِي، وضَعْفَ رُكنِي، وقِلَّة حِيلَتِي. فأرسل اللهُ عليهم رِيحًا عاصفةً شديدةَ الحَرِّ، وصارتِ الأرضُ مِن تحتهم حَجَرَ كِبريتٍ يتوقَّد(19)، وأظلتْهُم سحابةٌ سوداءُ فذابتْ أبدانُهم كما يذوبُ الرَّصاص، وقيل غير ذلك.
          (مَا يَعْبَأُ) ولأبي ذرِّ: ”{مَا يَعْبَأُ}(20)“[الفرقان:77] قال أبو عُبيدة‼: (يُقَالُ: مَا عَبَأْتُ بِهِ شَيْئًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ) وللأَصيليِّ: ”أي: لم تعتدّ به“ فوجودُه وعدمُه / سواءٌ، وقال الزَّجَّاج: معناه: لا وزن لكم عندي.
          ({غَرَامًا}) في قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}[الفرقان:65] قال أبو عُبيدة: (هَلَاكًا) وإلزامًا لهم، وعنِ الحسن: كلُّ غريم يُفارِقُ غريمَه إلَّا غريم جهنَّم.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) فيما أخرجه وَرْقاء في «تفسيره»: ({وَعَتَوْا}[الفرقان:21]) أي: (طَغَوْا) وعتوُّهم: طلبُهُم رؤيةَ الله حتى يؤمنوا به.
          (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان في قوله تعالى بسورة الحاقَّة، مما ذكره المؤلِّفُ استطرادًا على عادتِهِ في مثلِه: ({عَاتِيَةٍ}) من قوله: {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}[الحاقة:6] (عَتَتْ عَنِ(21) الخُزَّانِ) الذين هم على الريح، فخرجت بلا كيل ولا وزن، وفي نسخة: ”وقال ابن عبَّاس“ بدل: ”ابن عُيينة“، ووقع في هذه التفاسير تقديمٌ وتأخير في بعض النسخ.


[1] في غير (د) و(س): «جمعت».
[2] في (د): «صفة».
[3] في (ص) و(م): «ليفيد».
[4] كذا وفي الفتح وتفسير ابن عطية «بعد».
[5] في (م): «تنسخه».
[6] «فاء»: ليس في (ب).
[7] في (ب): «المغربي إلى المشرقي».
[8] في (د): «يكن حصول».
[9] في (د): «حصل».
[10] في (ص): «بإضافتها».
[11] «ولأبي ذر والأصيلي من طاعة الله»: سقط من (د).
[12] في غير (د): «للأصيلي».
[13] في (ب): «وقته».
[14] في (ب): «التسعير».
[15] «عليه»: سقط من (د).
[16] زيد في (ل) و(م) وهامش (ج): «{اكْتَتَبَهَا} كاتب له، فحُذِفت اللَّام, وأفضى الفعل إلى الضمير, فصار: اكتتبها إيَّاه كاتب، ثمَّ حُذِف الفاعل, وبُنِيَ الفعل للضمير الذي هو إيَّاه، فاستتر فيه».
[17] في (ص): «آثار».
[18] في غير (د): «وأرسلوه».
[19] في (م): «فتوقده»، وفي (ص): «فيوقده».
[20] «ولأبي ذر: ما يعبؤ»: ليس في (د) و(م)، وفي غيرهما ولا يصح «ما يعبؤوا» بواو الجمع، والمثبت من هامش اليونينيَّة، وعدها: «كذا رقمت في نسخة أبي ذرٍّ»، وفي (ل): «ما يعبأوا».
[21] في (د): «على».