إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب صلاة الخوف

          ░░12▒▒
          ░1▒ ( ╖ بابُ صَلَاةِ الخَوْفِ) أي: كيفيَّتها، من حيث إنَّه يحتمل في الصَّلاة عنده ما لا يحتمل فيها عند غيره، وقد جاءت في كيفيَّتها سبعة عشر نوعًا، لكن يمكن تداخلها، ومن ثمَّ قال في «زاد المعاد»: أصولها ستُّ صفاتٍ، وبلَّغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلَّما رأوا اختلاف الرُّواة في قصَّةٍ جعلوا ذلك وجهًا من فعله صلعم ، وإنَّما هو من اختلاف الرُّواة، قال في «فتح الباري»: وهذا هو المعتمد. انتهى. والإفراد في «باب» للأَصيليِّ وكريمة، وفي رواية أبي ذَرٍّ عن المُستملي وأبي الوقت: ”أبواب“ بالجمع، وسقط للباقين. (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفًا على سابقه، ولأبوي ذَرٍّ والوقت: ”قال الله تعالى“ ({وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ}) سافرتم ({فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}) إثمٌ ({أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ}) بتنصيف(1) ركعاتها، ونفي الحرج فيه يدلُّ على جوازه، لا على وجوبه، ويؤيِّده أنَّه ╕ أتمَّ في السَّفر، وأوجبه أبو حنيفة لقول عمر المرويِّ في النَّسائيِّ وابن ماجه وابن حبَّان: «صلاة السَّفر ركعتان، تامٌّ غير قصرٍ، على لسان نبيِّكم» ولقول عائشة ♦ المرويِّ عند الشَّيخين [خ¦1090]: أوَّل ما فُرِضَ الصَّلاة فُرِضَت ركعتين، فأُقِرَّت في السَّفر وزِيدت في الحضر، وأُجيب بأنَّ الأوَّل مُؤوَّلٌ بأنَّه كالتَّامِّ في الصِّحَّة والإجزاء، والثَّاني لا ينفي جواز الزِّيادة، لكنَّ أكثر السَّلف على وجوبه، وقال كثيرٌ منهم: هذه الآية في صلاة الخوف، فالمراد: أن تقصروا من جميع الصَّلوات بأن تجعلوها ركعةً‼ واحدةً، أو من كيفيَّتها، لا من كمِّيَّتها، والآية الآتية فيها تبيينٌ وتفصيلٌ لها كما سيجيء، وسُئِل ابن عمر ☻ : إنَّا نجد في كتاب الله تعالى قصر صلاة الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر، فقال ابن عمر: إنَّا وجدنا نبيَّنا يعمل، فعملنا به، وعلى هذا فقوله: ({إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}) بالقتال والتَّعرُّض لما يُكرَه شرطٌ له(2) باعتبار الغالب في ذلك الوقت؛ ولذا(3) لم يُعتَبر مفهومه، فإنَّ الإجماع على جواز القصر في السَّفر من غير خوفٍ ({ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا. وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ}) أيُّها الرَّسول، علَّمه طريق صلاة الخوف لتقتدي(4) الأئمَّة(5) بعده به، ╕ ({ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ }) وتمسَّك بمفهومه من خصَّ صلاة الخوف بحضرته ╕ ، وهو أبو يوسف، والحسنُ بن زيادٍ اللُّؤلؤيُّ من أصحابه، وإبراهيمُ ابنُ عُلَيَّة، وقالوا: ليس هذا لغيره لأنَّها إنَّما شُرِعت _بخلاف القياس_ لإحراز فضيلة الصَّلاة معه ╕ ، وهذا المعنى انعدم بعده، وأُجيب بأنَّ عامَّة الفقهاء على أنَّ الله تعالى علَّم الرَّسول كيفيَّتها ليُؤتَمَّ به كما مرَّ، أي: بيِّنْ لهم بفعلِكَ لكونه أوضح من القول، وقد أجمع الصَّحابة ♥ على فعله بعده ╕ ، وبقوله ╕ / [خ¦631]: «صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»، فعموم منطوقه مُقدَّمٌ على ذلك المفهوم، وادَّعى المزنيُّ نسخها(6) لتركه صلعم لها يوم الخندق، وأُجيب بتأخُّر نزولها عنه لأنَّها نزلت سنة ستٍّ، والخندق كان سنة أربعٍ أو خمسٍ ({ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ }) فاجعلهم طائفتين، فلتقم إحداهما معك يصلُّون، وتقوم الطَّائفة الأخرى في وجه العدوِّ ({ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ }) أي: المصلُّون، حزمًا، وقِيلَ: الضَّمير للطَّائفة الأخرى، وذكر الطَّائفة الأولى يدلُّ عليهم ({ فَإِذَا سَجَدُواْ}) يعني: المصلِّين ({فَلْيَكُونُواْ}) أي: غير المصلِّين ({ مِن وَرَآئِكُمْ }) يحرسونكم، يعني: النَّبيَّ ومن يصلِّي معه، فغلَّب المخاطب على الغائب ({ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ}) لاشتغالهم بالحراسة ({ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ}) ظاهره أنَّ الإمام يصلِّي مرَّتين، بكلِّ طائفةٍ مرَّةً كما فعله ╕ ببطن نخلٍ ({ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}) جعل الحذر وهو التَّحرُّز والتَّيقُّظ آلةً يستعملها الغازي، فجمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ ({ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً}) بالقتال، فلا تغفلوا ({ وَلاَ جُنَاحَ }) لا وزر ({عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ}) رخصةٌ لهم في وضعها إذا ثَقُلَ عليهم أخذُها بسبب مطرٍ أو مرضٍ، وهذا يؤيِّد أنَّ الأمر للوجوب دون الاستحباب ({ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ }) أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلَّا(7) يهجم عليهم العدوُّ ({ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}[النساء:101-102]) وعدٌ للمؤمنين بالنَّصر، وإشارةٌ إلى أنَّ الأمر بالحزم‼ ليس لضعفهم وغلبة عدوِّهم، بل لأنَّ الواجب في الأمور التَّيقُّظ. وقد ثبت سياق الآيتين بلفظهما إلى آخر قوله: { مُّهِينًا } كما ترى في رواية كريمة(8)، ولفظ رواية أبي ذَرٍّ ”{ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} إلى قوله: { عَذَابًا مُّهِينًا}“ وله أيضًا ولابن عساكر وأبي الوقت: ”{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ }... إلى قوله: { عَذَابًا مُّهِينًا }“ ولابن عساكر: ”{ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا }“(9) وزاد الأَصيليُّ: ”{ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ }... إلى قوله: { عَذَابًا مُّهِينًا }“.


[1] في (م): «بنصف».
[2] «له»: ليس في (د)، وزيد في (م): «لا».
[3] «ولذا»: ليس في (م)، وفي (ب): «إنَّما»، وفي (د): «ولا يُعتبَر».
[4] في غير (ص) و(م): «ليقتدي».
[5] في (د): «الأمَّة».
[6] في (د): «فسخها»، وهو تحريفٌ.
[7] في غير (ص) و(م): «كيلا».
[8] «في رواية كريمة»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[9] قوله: «ولابن عساكر: {إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}» ليس في (ص).