إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه

          4526- 4527- وبه قال: (حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ: ”حدَّثني“ بالإفراد (إِسْحَاقُ) هو(1) ابن رَاهُوْيَه قال: (أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) بالضَّاد المعجمة، و«شُمَيل» بضمِّ الشِّين المعجمة وفتح الميم، قال: (أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ) بفتح العين المهملة وسكون الواو وبالنُّون، عبد الله الفقيه المشهور (عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر أنَّه (قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ ☻ إِذَا قَرَأَ القُرْآنَ؛ لَمْ يَتَكَلَّمْ) بغير القرآن (حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا) أي: أمسكت المصحف وهو يقرأ عن ظهر قلبٍ، وعند الدَّارقطنيِّ في «غرائب مالكٍ» من رواية عبيد الله بن عمر عن نافعٍ قال: قال لي ابن عمر: أمسك عليَّ المصحف يا نافعٍ (فَقَرَأَ سُورَةَ البَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى(2) إِلَى مَكَانٍ) هو قوله: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}[البقرة:223] (قَالَ: تَدْرِي فِيمَا) بألفٍ بعد الميم، ولأبي ذرٍّ: ”فيمَ“ (أُنْزِلَتْ؟) قال نافعٌ: (قُلْتُ: لَا، قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا) أي: في إتيان النِّساء في أدبارهنَّ (ثُمَّ مَضَى) أي: في قراءته، وقد ساق المؤلِّف هذا الحديث مبهِمًا لمكان الآية والتَّفسير، وقد أخرج إسحاق ابن رَاهُوْيَه في «مسنده» و«تفسيره» _بالإسناد المذكور هنا_ هذا الحديث(3) بلفظ: «حتى انتهى إلى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال: تدري فيم أُنزِلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت(4) في إتيان النِّساء في أدبارهنَّ» فبيَّن فيه ما أُبهِم هنا.
          ثمَّ عطف المؤلِّف على قوله: «أخبرنا النَّضر بن شميلٍ» قوله: (وَعَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ) هو ابن عبد الوارث التَّنُّوريُّ أنَّه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (أَبِي) عبد الوارث بن سعيدٍ قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد أيضًا (أَيُّوبُ) السَّختيانيُّ (عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) ╠ أنَّه قال في قوله تعالى: ({فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}[البقرة:223] قَالَ: يَأْتِيهَا) زوجها (فِي) بحذف المجرور؛ وهو الظَّرف، أي: في الدُّبر؛ كما وقع التَّصريح به عند ابن جريرٍ في هذا الحديث من طريق عبد الصَّمد عن أبيه، قيل: وأسقط المؤلِّف ذلك(5) لاستنكاره، وقول الكِرمانيِّ: «فيه دليلٌ على جواز حذف المجرور والاكتفاء بالجارِّ» عُورِض: بأنَّ هذا لا يجوز إلَّا عند بعض النَّحويِّين في ضرورة الشِّعر، وقول(6) الحافظ ابن حجرٍ: «إنَّه نوعٌ من أنواع البديع يُسمَّى الاكتفاء، ولا بدَّ له(7) من نكتةٍ يحسن بسببها استعماله» تعقَّبه العينيُّ فقال: ليت شعري! من قال من أهل صناعة‼ البديع: إنَّ حَذْف المجرور وذِكْر الجارِّ وحده من أنواع البديع؟! والاكتفاء إنَّما يكون في شيئين متضادَّين يُذكَر أحدهما ويُكتَفى به عن الآخر؛ كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}[النحل:81] أي: والبردَ، وأجاب في «انتقاض الاعتراض»: بأنَّ ما ذكره العينيُّ هو أحد أنواع الاكتفاء، والنَّوع الثَّاني: الاكتفاء ببعض الكلام وحذف باقيه، والثَّالث: أشذُّ منه؛ وهو حذف بعض الكلمة، قال: وهذا المعترِض لا يدري، ويُنكِر على من يدري. انتهى. وفي «سراج المريدين»: أنَّ المؤلِّف ترك بياضًا بعد «في» فقال بعضهم: لأنَّه لمَّا رأى أحاديث تدلُّ للإباحة كحديث ابن عمر، وأخرى تدلُّ للمنع، ولم يَترَجَّح عنده في ذلك شيءٌ بيَّض له حتى يثبت عنده التَّرجيح، فاخترمته المنيَّة.
          (رَوَاهُ) أي: الحديث (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) القطَّان البصريِّ أبو صالح البصريُّ، فيما رواه الطَّبرانيُّ في «الأوسط» (عَنْ أَبِيهِ) يحيى بن سعيدٍ بن فَرُّوْخٍ؛ بفتح الفاء وتشديد الرَّاء المضمومة وسكون الواو ثمَّ معجمةٌ (عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) بضمِّ العين، ابن عمر (عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) ولفظ الطَّبرانيِّ قال: إنَّما نزلت على رسول الله صلعم : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}[البقرة:223] رخصةً في إتيان الدُّبر، قال الطَّبرانيُّ: لم يروه عن عبيد الله بن عمر إلَّا يحيى بن سعيدٍ، تفرَّد به ابنه، قال في «الفتح»: لم يتفرَّد به يحيى بن سعيدٍ؛ فقد رواه عبد العزيز الدَّراورديُّ عن عبيد الله بن عمر عن نافعٍ أيضًا، كما عند الدَّارقطنيِّ(8) في «غرائب مالكٍ» ورواه الدَّارقطنيُّ أيضًا في «الغرائب» من طريق الدَّراورديُّ عن مالكٍ عن نافعٍ عن ابن عمر بلفظ: «نزلت في رجلٍ من / الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فأعظم النَّاس ذلك، فنزلت، قال: فقلت له: من دبرها في قبلها؟ قال: لا، إلَّا في دبرها» لكن قال الحافظ ابن كثيرٍ: لا يصحُّ، وقال في «الفتح»: وتابع نافعًا على روايته زيد بن أسلم عن ابن(9) عمر عند النَّسائيِّ بإسنادٍ صحيحٍ، وتكلَّم الأزديُّ في بعض رواته، وردَّ عليه ابن عبد البرِّ وأصاب، قال: ورواية ابن عمر لهذا المعنى صحيحةٌ مشهورةٌ من رواية نافعٍ عنه، فغير نكيرٍ أن يرويها عنه زيد بن أسلم، قال ابن أبي حاتمٍ الرَّازيُّ: لو كان هذا عند زيد بن أسلم عن ابن عمر لَمَا أُولِع النَّاس بنافعٍ، قال ابن كثيرٍ: وهذا تعليلٌ منه لهذا الحديث، وقد رواه عن ابن عمر أيضًا ابنه عبد الله؛ كما عند النَّسائيِّ، وسالمٌ ابنه، وسعيد بن يسارٍ؛ كما عند النَّسائيِّ وابن جريرٍ، ولم ينفرد ابن عمر بذلك، بل رواه أيضًا أبو سعيدٍ الخدريُّ؛ كما عند ابن جريرٍ والطَّحاويِّ في «مشكله» بلفظ: «إنَّ رجلًا أصاب امرأته(10) في دبرها، فأنكر النَّاس‼ عليه، فأنزل الله الآية» وقد نُقِل إباحة ذلك عن جماعةٍ من السَّلف؛ لهذه الأحاديث وظاهر الآية، ونسبه ابن شعبان(11) لكثيرٍ من الصَّحابة والتَّابعين، ولإمام الأئمَّة مالكٍ في رواياتٍ كثيرةٍ، قال أبو بكرٍ الجصَّاص في «أحكام القرآن» له: المشهور عن مالكٍ إباحته، وأصحابه ينفون هذه المقالة عنه لقبحها وشناعتها، وهي عنه أشهر من أن تندفع بنفيهم عنه. انتهى. لكن روى الخطيب عن مالكٍ من طريق إسرائيل بن رَوْحٍ قال: سألت مالكًا عن ذلك فقال: ما أنتم قومٌ عربٌ؟! هل يكون الحرث إلا موضع الزَّرع؟! لا تَعدَّوا الفرج، قلت: يا أبا عبد الله إنَّهم يقولون: إنك تقول ذلك، قال: يكذبون عليَّ، يكذبون عليَّ فالظَّاهر أنَّ أصحابه المتأخِّرين اعتمدوا على هذه القصَّة، ولعلَّ مالكًا رجع عن قوله الأوَّل، أو كان يرى العمل على خلاف حديث ابن عمر، فلم يعمل به، وإن(12) كانت الرِّواية فيه صحيحةً على قاعدته؛ ولذا قال بعض المالكيَّة: إنَّ ناقل إباحته عن مالكٍ كاذبٌ مفترٍ، ونُقِل عن ابن وهبٍ أنَّه قال: سألت مالكًا فقلت: حكوا عنك أنَّك تراه، قال: معاذ الله! وتلا: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}[البقرة:223] قال: ولا يكون الحرث إلا موضع الزَّرع، وإنَّما نَسَب هذا «كتاب السِّرِّ» وهو كتابٌ مجهولٌ لا يُعتَمد عليه، قال القرطبيُّ: ومالكٌ أجلُّ من أن يكون له كتابُ سرٍّ، ومذهب الشَّافعيِّ وأبي حنيفة وصاحبيه وأحمد والجمهور: التَّحريم؛ لورود النَّهي عن فعله وتعاطيه، ففي حديث خزيمة بن ثابتٍ عند أحمد: «نهى رسول الله صلعم أن يأتي الرَّجل امرأته في دبرها» وحديث ابن عبَّاسٍ عند التِّرمذيِّ مرفوعًا: «لا ينظر الله إلى رجلٍ أتى امرأته في دبرها» في أحاديث كثيرةٍ يطول ذكرها، وحملوا ما ورد عن ابن عمر على(13) أنَّه يأتيها في قبلها من دبرها، وقد روى النَّسائيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي النَّضر أنَّه قال لنافعٍ: «إنَّه قد أكثر عليك القول أنَّك تقول عن ابن عمر: إنَّه أفتى أن تؤتى النِّساء في أدبارهنَّ قال: كذبوا عليَّ، ولكن سأحدِّثك كيف كان الأمر: إنَّ ابن عمر عرض المصحف يومًا _وأنا عنده_ حتَّى بلغ: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}[البقرة:223] فقال: يا نافع هل تعلم مِنْ أمر هذه الآية؟ قلت: لا، قال: إنَّا(14) كنَّا معشر قريشٍ نحني النِّساء، فلمَّا دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار؛ أردنا منهنَّ مثل ما كنَّا نريد، فإذا هنَّ قد كرهن ذلك وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود، إنَّما يؤتين على جنوبهنَّ، فأنزل الله: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}» وقد روى أبو جعفر الفريابيُّ عن أبي عبد الرَّحمن الحُبُليِّ(15) عن ابن عمر مرفوعًا: «سبعةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكِّيهم، ويقول: ادخلوا النَّار مع الدَّاخلين؛ الفاعل والمفعول به، وناكح‼ يده، وناكح البهيمة، وناكح المرأة في دبرها، والجامع بين المرأة وابنتها، والزَّاني بحليلة جاره، والمؤذي جاره حتَّى يلعنه» وأمَّا ما حكاه الطَّحاوي عن محمَّد ابن عبد الحكم: أنَّه سمع الشَّافعيَّ يقول: ما صحَّ عن النَّبيِّ صلعم في تحليله ولا تحريمه شيءٌ، والقياس: أنَّه حلالٌ؛ فقال أبو نصر بن الصَّباغ: كان يحلف بالله الذي لا إله إلا هو؛ لقد كذب _يعني: ابن عبد الحكم_ على الشَّافعيِّ في ذلك، فإنَّ الشَّافعيَّ نصَّ على تحريمه في ستَّة كُتُبٍ من كتبه. انتهى. / وأمَّا ما ذكره الحاكم في «مناقب الشَّافعيِّ» من طريق ابن عبد الحكم أيضًا: أنَّه حكى عن الشَّافعيِّ مناظرةً جرت بينه وبين محمَّد بن الحسن في ذلك، وأنَّ ابن الحسن احتجَّ عليه بأنَّ الحرث إنَّما يكون في الفرج، فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرَّمًا، فالتزمه فقال: أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها؛ أفي ذلك حرثٌ؟ قال: لا، قال: أفيحرم؟ قال: لا، قال: فكيف تحتجُّ بما لا تقول به؟! فيُحتَمل _كما قال الحاكم_ أن يكون ألزم محمَّدًا بطريق المناظرة وإن كان لا يقول بذلك، والحجَّة عنده في التَّحريم غير المسلك الذي سلكه محمَّد؛ كما يشير إليه كلامه في «الأمِّ».


[1] «هو»: ليس في (د).
[2] في (م): «أتى».
[3] قوله: «مبهِمًا لمكان الآية والتَّفسير،... _بالإسناد المذكور هنا_ هذا الحديث»، سقط من (د).
[4] في (د): «أنزلت».
[5] في (د): «هذا».
[6] في (د): «وقال».
[7] «له»: مثبت من (د) و(س).
[8] في (د): «الطَّبرانيِّ»، وهو تصحيف.
[9] في (د): «أبيه» وهو تحريفٌ.
[10] في (د): «امرأةً»، وليس بصحيحٍ.
[11] هو أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان رأس فقهاء المالكية (ت 355هـ).
[12] في (د): «وإنِّما»، ولا يصحُّ.
[13] «على»: سقط من (د).
[14] «إنَّا»: سقط من (د).
[15] في (د): «الحلي»، ولعلَّه تحريفٌ.