الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما جاء في الثوم الني والبصل والكراث

          ░160▒ (بَابُ مَا جَاءَ فِي الثُّوْمِ) بضم المثلثة وسكون الواو، وقرأ ابنُ مسعود: {وثُومِهَا} ذكره ابنُ الملقِّن؛ أي: بابُ ما وردَ في أكلِ الثُّوم (النِّيِّء) بكسر النون وبالهمز، ويجوز إبدالها ياء والإدغام فيها، والمرادُ به غير النَّضيجِ ممَّا لم يطبخ أصلاً، أو طبخَ ولم ينضج فبقيَ له رائحةٌ.
          وقال في ((القاموس)): الثُّوم _بالضم_ بستانيٌّ وبرِّيٌّ، ويعرفُ بثومِ الحيَّة وهو أقوَى، وكلاهُما مسخِّنٌ مخرجٌ للنَّفخِ والدُّودِ، مدرٌّ جدًّا، وهذا أفضلُ ما فيهِ، جيِّدٌ للنِّسيانِ والرَّبو والسُّعال المزمنِ، والطِّحال والخاصرَةِ والقولنجِ وعِرقِ النِّسا، ووجعِ الوركِ، والنُّقرسِ، ولسعِ الهوامِّ والحيَّات والعقاربِ، والكلْبِ الكَلِب، والعَطشِ البلغميِّ، وتقطيرِ البولِ.
          (وَالبَصَلِ) بفتحتين. قال في ((القاموس)): البصَل _محركةً_ معروفٌ واحدتها بهاءٍ، وبيضةُ الحديدِ انتهى.
          (وَالكُرَّاثِ) بضم الكاف وتشديد الراء فألف فمثلثة. وقال في ((القاموس)): كرُمَّانٍ وكَتَّانٍ: بقلٌ، وكسَحابٍ: شجَرٌ كِبارٌ، رأيتُها بجبالِ الطَّائفِ، وجَبلٌ. انتهى.
          وقال في ((الفتح)): هذه التَّرجمة والتي بعدها بقيَّة حديثٍ من أحكامِ المساجدِ، وأمَّا التَّراجم التي قبلها فكأنَّها من صفةِ الصَّلاة، لكن مناسبةُ هذه التَّرجمة وما بعدها لذلك من جهةِ أنَّه بنى صفةَ الصَّلاة على الصَّلاة جماعة، ولم يفردْ ما بعدَ كتابِ الأذان بكتابٍ؛ لأنَّه ذكرَ فيه أحكامَ الإقامةِ ثمَّ الإمامةِ ثمَّ الصُّفوف ثمَّ الجماعةِ ثمَّ صفة الصَّلاة، ولما كان كلُّ ذلك مرتبطاً بعضه ببعضٍ، واقتضَى فضل حضورِ الجماعةِ بطريق العمومِ، ناسب أن يوردَ فيه من قام به عارضٌ كأكل الثُّوم، ومن لا يجبُ عليه كالصِّبيان، ومن تندبُ له في حالةٍ دون حالةٍ كالنِّساء، فلذا ذكرَ هذه التَّراجم خاتماً بها الصَّلاة.
          ثمَّ قال: وتقييدهُ بالنِّيِّء حملٌ منه للأحاديثِ المطلقةِ على غيرِ النَّضيج والكرَّاثِ لم يقعْ في أحاديث الباب، لكنَّه أشارَ به إلى ما ورد عند مسلمٍ في حديثِ جابرٍ قال: نهَى رسولُ الله صلعم عن أكلِ البصَلِ والكرَّاثِ فغلبتنا الحاجةُ / فأكلنَا منه، فقال النَّبيُّ صلعم: ((مَن أكلَ من هذهِ الشَّجرة المنتنَةِ، فلا يقربنَّ مسجدنَا))، ويحتملُ أنَّه استنبطَ الكرَّاث من عمومِ الخضراواتِ، وهذا أولى من قول بعضهم: إنَّه قاسهُ على البصَلِ، وقيل: قاسهُ على البَقلتينِ.
          وأقول: أخذ العينيِّ هذا الأخير ونسبهُ لنفسهِ بصيغة: فيمكن أن يقال... إلخ، ورد الأوَّل، فقال: وهذا التَّوجيهُ أولى من قولِ هذا القائلِ: كأنَّه أشارَ به... إلخ، وكذا ردَّ قياسه على البصلِ، فقال: وهذا أبعدُ من الذي قالَه. انتهى فاعرفه.
          وذكر ابنُ الملقِّن وغيره أحاديثَ في الكرَّاث، منها: ما في ((مسندِ الحميديِّ)) بإسنادٍ على شرط ((الصَّحيح)): سئل جابرٌ عن الثُّوم فقال: ((ما كانَ بأرضنَا يومئذٍ ثوم، إنَّما الذي نهَى رسولُ الله صلعم عنه البصَل والكرَّاث)).
          ومنها: ما في ((مسند السَّرَّاج)): نهى عليه الصَّلاة والسَّلام عن أكلِ الكرَّاثِ فلم ينتهوا، ثمَّ لم يجدوا بدًّا من أكلهَا، فوجدَ ريحها، فقال ((ألم أنهَكُم))، الحديث.
          ومنها: ما أخرجَه مسلمٌ من حديث جابرٍ بلفظ: ((من أكلَ من هذهِ البقْلَة الثُّوم))، وقال مرَّة: ((من أكلَ من البصَلِ والثُّوم والكرَّاث فلا يقرَبنَّ مسجدنَا، فإنَّ الملائكةَ تتأذَّى ممَّا يتأذَّى منه بنُو آدم))
          (وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم) بجر ((قول)) عطفاً على ((ما جاءَ))، ويجوز رفعه عطفاً على ((بابِ)) وفي بعض الأصول المعتمدةِ: <وقال النَّبيُّ صلعم> ماضياً (مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ البَصَلَ) أي: النِّيِّء (مِنَ الجُوعِ أَوْ غَيْرِهِ) أي: كالتَّشهِّي والتَّأدُّم بالخبزِ، و((من)) للتعليل متعلِّقة بـ((أكل)).
          (فَلَا يَقْرَبَنَّ) بنون التوكيد مثقلة (مَسْجِدَنَا) قال في ((فتح الباري)) وتبعُوه: ليسَ هذا لفظُ حديثٍ، بل هو من تفقُّه البخاريِّ وتجويزهِ لذكرِ الحديثِ بالمعنى، والتَّقييد بالجوع أو غيره مأخوذٌ من كلام الصَّحابي في بعضِ طرق حديث جابرٍ وغيره، فعند مسلمٍ عن جابرٍ: ((نهى رسولُ الله صلعم عن أكلِ البصلِ والكرَّاث، فغلبتنَا الحاجة))... الحديث، وعنده أيضاً من حديثِ أبي سعيدٍ: ((لم نعُدْ أن فُتِحَت خيبرَ، فوقعْنَا في هذهِ البقلةِ والنَّاس جياعٌ))... الحديث.