الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: يهوي بالتكبير حين يسجد

          ░128▒ (بَابٌ) بالتنوين (يَهْوِي) بفتح أوله وضمِّه وكسر ثالثه، فهما روايتان؛ أي: ينحطُّ المصلِّي ويهبطُ متلبساً (بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُدُ) أي: حين يريدُ السُّجود ويمدُّه إلى الشُّروع في السُّجود.
          قال الفقهاءُ: لئلا يخلو جزء من صَلاته عن ذكرٍ، وكذا في سائرِ الانتقالاتِ، حتى في جلسةِ الاستراحة، فيمدُّه على الألف التي بين اللام والهاء، لكن بحيث لا يجاوز سبعَ ألفات لانتهاء غايةِ هذا المدِّ من ابتداءِ رفعِ رأسه إلى تمامِ قيامه.
          تنبيه: يقال: هوى يهوي هَوياً _بالفتح_: هبط، وهُوياً _بالضم_: صعد، وقيل: بالعكس، وقيل: هما لغتان، وهوِي يهوَى بالكسر في الماضي، والفتح في المضارع: أحب.
          (وَقَالَ نَافِعٌ) أي: مولى ابن عمر، ممَّا وصله ابنُ خُزيمة والطَّحاوي وغيرهما إلى نافع، قال: (كَانَ ابْنُ عُمَرَ) أي: ابن الخطَّاب ☻ (يَضَعُ يَدَيْهِ) أي: كفَّيه عند الهوي للسجود (قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ) وزاد في آخره: ويقول: ((كان النَّبي صلعم يفعلُ ذلك)).
          قال البيهقيُّ: كذا رواه عبدُ العزيز، ولا أراه إلا وهماً _يعني: رفعه_ قال: والمحفوظُ من طريق نافعٍ عن ابن عمر قال: إذا سجدَ أحدكُم فليضعْ يديه، وإذا رفعَ فليرفعهما، فإن اليدين تسجدان كما يسجدُ الوجه، وروى البيهقيُّ بإسناده إلى ابن عمر رفعه: ((إنَّ اليدين تسجدانِ كما يسجدُ الوجه، فإذا وضعَ أحدكُم وجهَه فليضَعْ يديهِ، وإذا رفعَه فليرفعْهُما)) وهذا الحديثُ الأخير خرَّجه ابن خُزيمة في ((صحيحه))، وقال الحاكمُ: على شرط الشَّيخين. انتهى.
          وقال في ((الفتح)): ولقائل أن يقول: هذا الموقوفُ غيرُ المرفوع فإن الأول: في تقديم وضعِ اليدين على الركبتين، والثاني: في إثبات وضعِ اليدين في الجملةِ. انتهى، فتدبَّر.
          واستشكلَ إيرادُ هذا الأثرِ في هذه الترجمةِ، وأجاب ابنُ المنير بما حاصله: أنه لما ذكر فيها صفة الهويِّ إلى السُّجود القولية، أردفها بصفته الفعليَّة في أثر ابن عُمر، وأمَّا حديث أبي هريرة فأشار إليهما معاً.
          وقال في ((الفتح)): والذي يظهرُ: أن أثرَ ابن عمر من جملة الترجمة، فهو مترجمٌ به لا مترجم له، والترجمة قد تكون مفسِّرة لمجمل الحديث، وهذا منها.
          ورده العينيُّ فقال: هذا غير موجَّه بل ولا يصح ذلك؛ لأنه إذا كان من جملةِ الترجمة يحتاجُ إلى شيء يذكره يكون مطابقاً لها، وليس ذلك بموجود. انتهى.
          وأقول: تنبيه: دلَّ هذا الأثر على أن الأولى عند إرادةِ السُّجود وضع اليدين قبلَ وضعِ الركبتين، وبه قال مالك والأوزاعي والحسن وابن حزمٍ، وهي رواية عن أحمد.
          قال ابنُ رجب: ومن أصحابنا من خصَّها بالشيخ / الكبير والضَّعيف.
          قال ابنُ الملقِّن: وفيه حديث عن أبي هريرة رواه أبو داود والترمذيُّ لكنه استغربه، والنَّسائي، وأعلَّه البخاري والدَّارقطني، ولفظه: ((إذا سجَدَ أحدكُم فلا يبرك كما يبركُ البعيرُ وليضعْ يديه قبلَ ركبتيهِ)) وأبدى ابن المنيِّر لتقديم اليدين مناسبة، وهي: أن يتلقَّى الأرض عن جبهتهِ، ويعتصم بتقديمهما عن إيلام ركبتيهِ إذا حنى عليهما، وذهبَ الشَّافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد على الأصحِّ وإسحاق وأهل الكوفة وأكثر العلماء كما نقله الترمذيُّ وغيره إلى أن الأفضلَ: وضعَ ركبتيهِ ثم يديهِ، وعن مالك وأحمد رواية: أنه يقدم أيُّهما شاءَ، وعن مالك أيضاً كالشَّافعي، وقال قتادةُ: يضعُ أهونَ ذلك عليه.
          قال العينيُّ: وفي الإسبيجابي: عن أبي حنيفة: من آداب الصَّلاة: وضع الركبتين قبلَ اليدين، واليدين قبلَ الجبهة، والجبهة قبلَ الأنف، ففي الوضعِ يقدِّم الأقربَ إلى الأرض، وفي الرفعِ يقدِّم الأقربَ إلى السَّماء: الوجه ثمَّ اليدان، وإن كان لابسَ خفِّه يضعُ يديه أولاً. انتهى.
          والدُّليل لما قاله الشَّافعي والأكثرون ما رواه أصحاب السُّنن عن وائل بن حجر بلفظ: ((رأيتُ رسول الله صلعم إذا سجدَ وضعَ ركبتيهِ قبل يديهِ))، وما رواه ابن خُزيمة من حديث سعد وادَّعى أنه ناسخٌ لحديث أبي هريرة الذي أشرنَا إليه قريباً، ولفظ حديث سعد قال: كنَّا نضعُ اليدين قبلَ الركبتين، فأمرنا بالركبتين قبل اليدين.
          قال في ((الفتح)): وهذا لو صحَّ لكان قاطعاً للنزاعِ، لكنَّه من أفرادِ إبراهيم بن إسماعيل عن أبيه، وهما ضعيفان.
          ولذا قال ابنُ الملقِّن: وأعله البيهقيُّ وغيره.
          والحاصلُ: أنَّ الأحاديث في ذلك لا تخلو عن تعارضٍ ومقالٍ.
          ولذا قال النَّووي: لا يظهر ترجيحُ أحد المذهبين على الآخرِ من حيث السنة.
          وقال مالكٌ وأحمد في رواية عنهما: بالتَّخيير.
          بل قال الحافظ ابنُ حجر: ((في بلوغ المرام من أحاديث الأحكام)): حديث أبي هريرة أقوَى من حديث وائل بنِ حجر _وتقدَّما آنفاً_ قال: لأنَّ لحديث أبي هُريرة شاهداً من حديث ابن عمر، صحَّحه ابن خزيمة وذكره البخاري معلقاً موقوفاً. انتهى.
          ومراده بما ذكره البخاري: قوله هنا: ((قال نافع... إلخ))، فاعرفه.