الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إنما جعل الإمام ليؤتم به

          ░51▒ (بَابٌ: إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ) أي: إماماً، وهو المفعول الثاني لـ((جُعِل)) المبني للمفعول، ومعناه: مُتَّبعاً لئلا يتَّحد المبتدأ والخبر فيلغو الحملُ، ويدلُّ عليه قوله: (لِيُؤْتَمَّ بِهِ) والأقربُ: أنَّ المفعول الثاني ((ليؤتم به)) أي: إنما وضع الإمام ونصب ليقتدى به، لكن لا يخلو عن تعليل الشَّيء بنفسه، وإن قدَّره به البيضاويُّ _كما يأتي_ فينبغي تقدير المفعول الثاني بلفظ: مقدَّماً، مثلاً.
          وقال شيخُ الإسلام: اللام فيه للجنس أو للعهد الذِّهني، والمعنى: إنما جعل للنَّاس إمامٌ في الصَّلاة ليؤتمَّ به فيها؛ أي: ليُقتدى به في أفعال الصَّلاة بأن يتأخَّر ابتداءُ فعل المأموم عن ابتداءِ فعل الإمام، ويتقدَّم ابتداء فعل المأمومِ على فراغ الإمام، فإن قارنه ولو في الأقوال لم يضرَّ ولو في السَّلام على الصَّحيح، لكنها مفوتةٌ لفضيلة الجماعةِ إلا تكبيرة الإحرام فتضرُّ المقارنة فيها عندنا كأبي يوسف، فلا تنعَقِدُ الصَّلاة حينئذٍ، وعند أبي حنيفة ومحمد وزفر والثَّوري: يسنُّ أن يُكبِّر للإحرامِ مع إمامه، لكن قيَّده بعضُهم بأن يشرع الإمامُ في ابتداء التَّكبير، والواجب عندنا: أن يتأخَّر جميع تحرمه عن جميع تحرمه، وأن لا يسبقهُ بركنين فعليين، فإن سبقهُ بهما عامداً بطلَتْ، / وكذا بركنٍ لكن لا بطلانَ فيه وإن حَرُم، وكذا تبطلُ لو خالفَه بسنة تفحشُ المخالفة بها كسجوده لتلاوةٍ دون إمامه، وأن لا يتأخَّر بركنين، فإن تخلَّف بهما ولا عذر بطلت، كالتقدُّم بهما، بخلاف التَّأخُّر بركنٍ فلا يحرم، بل يُكرَه.
          قال في ((الفتح)): وهذه الترجمة قطعةٌ من حديث الباب، والمرادُ بها: أنَّ الائتمام يقتضي متابعةَ المأموم في أحوال الصَّلاة، فتنتفي المقارنةُ والمسابقة والمخالفةُ، إلَّا ما دل الدَّليل الشَّرعيُّ عليه، ولذا صدَّر الباب بقوله:
          (وَصَلَّى النَّبِيُّ صلعم فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِي فِيهِ بِالنَّاسِ وَهْو جَالِسٌ) أي: والنَّاس خلفه قياماً، ولم يأمرهم بالجلوس، فدلَّ على تخصيصِ قوله: ((إنَّما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به)).
          (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ) ☺، مما وصله ابنُ أبي شيبة بمعناه بإسنادٍ صحيحٍ عنه، ولفظه: ((لا تبادروا أئمَّتكُم بالرُّكوع ولا بالسُّجودِ، وإذا رفعَ أحدُكُم رأسهُ والإمام ساجدٌ فليسجُدْ ثمَّ ليمكثْ قدرَ ما سبقهُ به الإمام))، وهو أتمُّ من قوله هنا: (إِذَا رَفَعَ) أي: المأمومُ (قَبْلَ الإِمَامِ) أي: من الرُّكوع أو السُّجود (يَعُودُ فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ، ثُمَّ يَتْبَعُ الإِمَامَ) قال في ((الفتح)): وكأنَّه أخذهُ من قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إنَّما جُعِل الإمامُ ليؤتمَّ به)) ومن قوله: ((وما فاتَكُم فأتِمُّوا))، وروى عبد الرَّزَّاق بسندٍ صحيحٍ عن معمر نحو قول ابن مسعودٍ، ولفظه: أيُّما رجلٍ رفع رأسهُ قبل الإمام في ركوعٍ أو سجودٍ فليضعْ رأسه بقدر رفعِهِ إيَّاه.
          قال ابنُ المنير: إذا كان الرَّافع المذكور يؤمر عنده بقضاء القدرِ الذي خرج فيه عن الإمام، فأولى أن يتبعه في جملة السُّجود، فلا يسجدُ حتى يسجد، وظهرت بهذا مناسبةُ الأثر للتَّرجمة.
          وقال ابن الملقِّن: وروى البيهقي من طريق ابن لهيعةَ أنَّ عمر قال: إذا رفع أحدُكُم رأسه وظنَّ أنَّ الإمام قد رفع فليعد رأسه، وليمكثْ بقدرِ ما ترك، ثمَّ قال: وروينا عن إبراهيم والشَّعبي: أنَّه يعودُ فيسجد، وكلُّ هذا لأجل المتابعةِ وحكى ابنُ سحنون عن أبيه نحوه.
          ومذهب مالكٍ: أن من خفضَ أو رفعَ قبل إمامهِ يرجعُ فيفعل ما دام إمامهُ لم يفرُغ من ذلك، وبه قال أحمد وإسحاق والحسن والنخعي، وروي نحوهُ عن عمر: وقال ابنه: من ركعَ أو سجد قبل إمامهِ لا صلاةَ له، وهو قول أهل الظَّاهر، وقال الشَّافعي، وأبو ثور: إذا ركعَ أو سجد قبله فإن أدركه الإمامُ أساءَ ويجزئه، انتهى.
          وأقول: ظاهر هذه الآثار والمنقولِ عن هؤلاء الأئمَّةِ الأخيار: أنَّه لا فرقَ في التَّقدُّم المذكورِ بين العمد والسَّهو، لكن مذهب الشَّافعيَّةِ: أنه إذا رفعَ قبل الإمام من الرُّكوع أو ركع قبله لا يجبُ عليه العود، وإن كان سهواً لعدم فحشِ المخالفة، بل يتخيَّر في العودِ وعدمهِ، وإن رفع قبله من السُّجود، أو سجدَ من القيام فإن كان عامداً فلا يجبُ عليه العود بل يسنُّ، وإن حرم عليه السَّبق، بخلاف التَّأخُّر بركنٍ، فإنَّه مكروهٌ؛ لأنَّ له قصداً صَحيحاً بانتقالهِ من واجِبٍ لمثله، فاعتدَّ بفعله، وأمَّا إن كانَ ناسياً فيجبُ عليه العودُ لمتابعة إمامه؛ لأنَّ فعلهُ مع النِّسيان كالعدم، ومثله لو قام وإمامه في التَّشهُّد الأول، نعم لو لم يتذكر السَّاهي حتى قام إمامه لم يعدْ، لكن لا يحسبُ له ما قرأه قبل قيامِ إمامه، واستيفاء البحثِ في ذلك مع بيان الخلاف مذكورٌ في كتبِ الفروع.
          (وَقَالَ الحَسَنُ) أي: البصريُّ (فِيمَنْ يَرْكَعُ مَعَ الإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ) يعني: ركوعين / (وَلَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ) أي: لزحمةٍ ونحوها، والغالبُ حصولها في الجُمُعة، فإن قدر على السُّجود ولو على ظهر إنسانٍ سجد، وبه قال الشَّافعيُّ وأبو ثور والكوفيون، ولا إعادة عليه.
          وقال مالكٌ: لا يسجدُ على ظهرٍ، فإن خالفَ يعيدُ.
          وقوله: (يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ الأخِيرَةِ) بالتحتية و((يسجد... إلخ)) مقول الحسن أجابَ به، ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: <الآخرة> بحذفها (سَجْدَتَيْنِ) ولو بعد سلامِ الإمام (ثُمَّ يَقْضِي) أي: يؤدِّي، إذ ليس ذلك قضاء (الرَّكْعَةَ الأُولَى بِسُجُودِهَا) أي: مرَّتين، فالإضافة للجنس، ولم يجعل القضاءُ للثانية لاتِّصال ركوعه الثاني بالسجدتين، وهذا وجهٌ للشَّافعيَّة، والرَّاجح: أنه يحسب ركوعه الأول؛ لأنَّه فعله وقت الاعتدادِ به دون الثاني، فإنَّه للمتابعة، فتعيَّن أن السَّجدتين للرُّكوع الأول، فركعته ملفَّقة من ركوعِ الأولى وسجودِ الثانية، ويدركُ به الجمعة في الأصحِّ.
          (وَفِيمَنْ) عطف على: ((فيمن)) الأولى (نَسِيَ سَجْدَةً حَتَّى قَامَ: يَسْجُدُ) أي: يعودُ من قيامهِ لعدمِ الاعتدادِ به لعدم مجيءِ وقته.
          قال في ((فتح الباري)): فيه _أي: أثر الحسنِ_ فرعان:
          أما الأوَّل: فوصلهُ ابنُ المنذر في كتابه ((الكبير))، وسعيد بن منصورٍ عنه بلفظ: في الرَّجل يركع يوم الجُمُعة فيزحمه النَّاسُ فلا يقدرُ على السُّجود، قال: إذا فرغوا من صَلاتهم سجدَ سَجدتين لركعتهِ الأولى، ثمَّ يقوم فيصلِّي ركعةً وسجدتين.
          ومقتضاهُ: أنَّ الإمامَ لا يتحمَّلُ الأركان، فمَن لم يقدر على السُّجود معه لا تصحُّ له ركعةٌ، ومناسبته للترجمة: من جهةِ أنَّ المأموم لو كان له أن ينفردَ عن الإمام لا يستمرُّ متابعاً له في صلاته التي اختلَّ بعض أركانها حتى يحتاجَ إلى تداركه بعد فراغِ الإمام.
          وأقول: لكن مقتضَى هذا مخالفٌ لما في المتنِ من أنَّ القضاء للثَّانيةِ لا للأولى، فتدبَّر.
          وأما الفرعُ الثاني: فوصلهُ ابن أبي شيبة، ولفظه: في رجلٍ نسيَ سجدةً من أوَّل صلاته فلم يذكرها حتى كان آخر ركعةٍ من صلاته، قال: يسجدُ ثلاث سجداتٍ، فإن ذكرها قبل السَّلام يسجدُ سجدةً واحدةً، وإن ذكرها بعد انقضَاء الصَّلاة يستأنفُ الصَّلاة.
          وأقول: مذهب الشَّافعيَّة فيما إذا نسيَ سجدةً من غير الأخيرةِ: تجبُ ركعة.