الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من لم ير التشهد الأول واجبًا لأن النبي قام من الركعتين

          ░146▒ (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ التَّشَهُّدَ الأَوَّلَ وَاجِباً) والتشهُّد: تفعل من الشَّهادة، سمِّي بذلك لاشتماله على الشَّهادتين، من إطلاقِ اسم البعض على الكلِّ، تغليباً له على بقيَّة الأذكار لشرفهمَا، باعتبار أنَّ بهما الدُّخول في الإيمان، الذي به النَّجاة والشَّرف للإنسانِ، والمراد: تشهُّد الصَّلاة، وهو التحيَّات، وعلَّل عدم الوجوب بقوله: (لأَنَّ النَّبِيَّ / صلعم قَامَ) أي: نسياناً (مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ) أي: الأوليين (وَلَمْ يَرْجِعْ) أي: إلى التشهُّد لتلبسه بالفرضِ بعد تمام الانتصابِ، لكنَّه سجد للسَّهو كما يأتي، وهكذا حكمُ ما لو تركه الإمامُ أو المنفرد كما هنا، بخلافه قبل ذلكَ فإنَّه يعود ويتشهَّد، لكن إن صار إلى القيامِ أقرب يسجد للسَّهو، وإلَّا فلا، ولو كان واجباً لرجع إليهِ لما سبَّحوا به.
          وأمَّا قول ابن المنيِّر: لو كان واجباً لسبَّحوا به، ولم يسارعوا إلى الموافقةِ، فهو غفلةٌ منه عن الرِّواية المنصوص فيهَا على أنَّهم سبَّحوا به، قاله في ((الفتح)).
          قال التَّيمي: أجمع الفقهاءُ على أن التشهُّد الأوَّل ليس بواجبٍ، إلا أحمد؛ فإنَّه قال بوجوبهِ؛ لأن النَّبي صلعم تشهَّد وقال: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي))، وحجَّة الجمهور: أنَّ سجوده ناب عن التشهُّد والجلوس، ولو كانا واجبين لم ينب منابهمَا سجود السَّهو، كما أنَّه لا ينوب عن الرُّكوع وسائر الأركانِ.
          وقال في ((الفتح)): وممَّن قال بوجوبه: اللَّيث وأحمد وإسحاق في المشهورِ عنه، وهو قول للشَّافعيِّ، ورواية عن الحنفيَّة.
          وأقول: هو الصَّحيح، كما يأتي، وزاد ابنُ الملقِّن أبا ثور.
          وقال في ((شرح الهداية)): قراءة التشهُّد في القعدةِ الأولى واجبةٌ عند أبي حنيفة، وهو المختارُ والصَّحيح، وقيل: سنَّة، وهو أقيسُ، لكنَّه خلاف ظاهرِ الرِّواية.
          وعبارة ((الملتقى)) مع ((شرحها)) للعلائيِّ في بيانِ الواجبات: والقعود الأوَّل في الأصحِّ، وعند محمد: هو في النَّفل فرضٌ، والتشهُّدان في القعدتينِ على الأصحِّ، وأمَّا القعدة الأخيرة فهي من الأركانِ. انتهت، ولكن بتقديمٍ وتأخيرٍ.
          وفي ((المغني)): إن كانت الصَّلاة مغرباً أو رباعيَّة فهما واجبانِ فيهما على إحدى الرِّوايتين؛ لأنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام فعله وداوم عليه، وأمر به، ثمَّ قال: روى النَّسائي من حديثِ ابن مسعودٍ مرفوعاً: ((إذا قعدتم في كلِّ ركعتين فقولوا: التَّحيَّات لله)). الحديث، وروي عن عمر بن الخطَّاب أنَّه قال: من لم يتشهَّد فلا صلاةَ له. انتهى.
          وأقول: حديثُ النَّسائي وأثر عمر لا دلالةَ فيهما لمن تأمَّل، واحتجَّ الطَّبري بأمرين قد أجابَ عنهما، فراجع ((فتح الباري)).
          قال ابن المنيِّر: ذكر في هذه التَّرجمة الحكمَ ودليله، ولم يبتَّ الحكم مع ذلكَ كأن يقول: باب لا يجب التشهُّد الأول، وسببه ما يطرق الدَّليل المذكور من الاحتمالِ، وقد أشارَ إلى معارضتهِ في التَّرجمة التي تلي هذهِ، حيث أوردها بنظيرِ ما أوردَ به التَّرجمة التي بعدها، لكن في حديثهَا ما يشعرُ بالوجوبِ؛ فإنَّه قال فيه: ((وعليه جلوسٌ)).