الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة

          ░82▒ (بُابُ إِيجَابِ التَّكْبِيْرِ، وَافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ) اعلم أنَّه وقع في نسخة ((الفتح)) و((العمدة)) هكذا: ((بسم الله الرحمن الرحيم، أبواب صفةِ الصلاة، باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة)) وجزمَ بالحكمِ مع الاختلاف فيه لضعفه.
          أي: وهذا شروعٌ في بيان صفة الصلاة بأنواعها، وما يتعلَّق به مفصَّلاً بعد فراغهِ من بيان أحكام الجماعة / وما يتعلَّق بها كذلك، من إقامة الصُّفوف وتسويتها وغير ذلك، ومعنى التَّرجمة: باب وجوب التكبير للإحرام مع الشروع في الصَّلاة؛ لأنَّ التكبير افتتاحها كما أن التَّسليم اختتامها، فأطلقَ الإيجابَ على الوجوب مجازاً مرسلاً؛ لأنَّ الإيجابَ خطابُ الشارع، والوجوبُ لازمه، ويتعلَّق بفعل المكلف، وهو المرادُ هنا، قاله في ((الفتح)).
          وأقول: يجوز أن يبقى الإيجابُ على أصله، ولا شكَّ أنه يستلزم الوجوبَ.
          قال الكرماني: وأما الحكمةُ في ابتداء الصَّلاة بالتكبير: فافتتاحها بالتَّعظيم للمعبود سبحانه، ونعتهُ بصفاتِ الكمال أولى.
          وقال في ((الفتح)): الظَّاهرُ: أن الواو عاطفة، إما على المضاف، وهو ((إيجاب))، وإما على المضاف إليه وهو ((التكبير))، والأوَّل أولى إن كان المرادُ بالافتتاح: الدعاء، لكنه لا يجبْ، والذي يظهرُ من سياقه: أنَّ الواو بمعنى مع، وأن المراد بالافتتاح: الشُّروع في الصلاة، وأبعدُ من قال: إنها بمعنى الموحدة أو اللام، انتهى.
          واعترضهُ العيني فقال: لا نسلِّمُ أن الواو هنا عاطفة، فلا يصحُّ قوله: إما على المضاف، وإما على المضاف إليه، بل الواو هنا بمعنى باء الجر، كما في قولهم: أنت أعلمُ ومالك، والمعنى: إيجاب التَّكبير بافتتاح الصَّلاة، وإما بمعنى لام التعليل، والمعنى: إيجاب التَّكبير لأجل افتتاح الصَّلاة، ومجيء الواو بمعنى لام التعليل، ذكره الخارزنجي، انتهى.
          وأقول: لا يخفَى ما في قوله: لا نسلم... إلخ، إذ لم يذكرْ لمنعهِ ولا لما فرع عليه مستنداً، مع أنَّ ما ذكره في ((الفتح)) هو الأصل في الواو العطف، والمعنى عليه صحيحٌ على الوجهين في العطف: أما على الأول فلأنَّه إذا أريد بالافتتاح الدُّعاء _يعني: دعاءه_ وهو التوجُّه كان العطفُ للتأسيس، لكن يرد عليه أنَّه ليس في الباب ما يدلُّ عليه، إلا أن يدعي أنه أشارَ به إلى ما ليس على شرطه كعادته. وأما على الثاني: فإما أن يفسر: ((افتتاح الصلاة)) بالتكبير، فالعطف للتأكيد، وإما أن يجعلَ أعم إشارة لمذهبِ من يرى أنه لا يتوقَّفُ الدخول في الصَّلاة على خصوصِ التَّكبير، كما يأتي بيانه.
          وأما استبعادهُ كون الواو بمعنى الباء، فإن أراد بما فيه الصِّناعة، فلا بعد، قال به جماعةٌ كما في ((المغني)) قال فيه، وهو ظاهرٌ، وإن أراد من حيث المعنى فكذلك، نعم مجيئها بمعنى اللام بعيدٌ، فقد قال به عن الخارزنجي، وأنَّه حمل عليه آياتٍ نحو: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:34] ونحو: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ} الآية [الأنعام:27].
          لكن قال في ((المغني)): والصَّوابُ: أن الواو فهي للمعيَّة، فتأمَّل.
          واعلم: أنَّ هذه الواو ليست حينئذٍ جارَّة كما قد يتوهَّم، فإنهم لم يذكروها بهذا المعنى من حروف الجرِّ، فافهم.
          ثمَّ قال في ((الفتح)): وكأنَّه أشارَ إلى حديثِ عائشة ♦: ((كان النَّبيُّ صلعم يفتتحُ الصَّلاة بالتَّكبير))، وحديثُ ابن عمر الآتي بعد بابين: ((رأيتُ النَّبيَّ صلعم افتتحَ التَّكبيرَ في الصَّلاةِ))، وبهما استدلَّ على تعين لفظ التَّكبير دون غيره من ألفاظ التَّعظيم، وهو قولُ الجمهور ووافقهم أبو يوسف، وعن الحَنفية: تنعقدُ بكل لفظ يقصدُ به التعظيم، ومن حجَّة الجمهور: حديثُ رفاعة في قصَّة المسيءِ صلاته الذي أخرجه أبو داود بلفظ: ((لا تتمُّ صلاةُ أحَدٍ من النَّاسِ حتى يتوضَّأَ فيضعُ الوضوء مواضعهُ ثمَّ يكبِّرُ))، ورواه الطَّبراني بلفظ: ((ثمَّ يقولُ: الله أكبرُ)).
          وحديثُ أبي حميدٍ: كان رسول الله صلعم / إذا قام إلى الصَّلاة اعتدل قائماً ورفع يديه ثمَّ قال: ((اللهُ أكبر))، أخرجهُ ابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وهذا كروايةِ الطَّبراني مبين للمرادِ بالتَّكبير، وهو قول: الله أكبر، وكذا رواية البزار بسندٍ صحيحٍ على شرط مسلمٍ عن عليٍّ أن النَّبيَّ صلعم: كان إذا قامَ إلى الصَّلاة قال: ((الله أكبر))، انتهى ملخَّصاً.
          وقال العيني: التَّكبير هو التَّعظيم لغة، فكلُّ لفظ دل على التَّعظيم وجبَ أن يجوز الشُّروع به، ومن أين أن التَّكبير وجب بعينهِ حتى يقتصرَ على لفظه؟ والأصلُ في نصوص الشَّرع أن تكون معقولةً، والتعبُّد خلاف الأصل على ما عرفَ في الأصول، وقال تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] وهو عامٌّ في الله والرحمن؛ لأنهما في الذِّكر سواءٌ، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180].
          وأطال بما لا يخلو عن مناقشة لمن تأمَّل وأنصفَ، والظَّاهر من الأحاديث: ما قالهُ الجمهور، وهو كافٍ في الاستدلالِ، والمسألة اجتهاديَّةٌ.
          وقال ابن الملقِّن: واختلف العلماءُ في تكبيرة الإحرام، فقال مالكٌ والشَّافعي وأحمد: هي ركنٌ، وقال أبو حَنيفة: شرطٌ وهو وجهٌ عندنا، وتظهرُ فائدة الخلاف فيما لو كبَّر وفي يده نجاسةٌ فألقاها في أثنائِهِ، أو أحرمَ قبل الزوال مثلاً ثمَّ زالت الشَّمس في أثنائِهِ، أو أحرم مكشوفَ العورة ثمَّ سترها في أثنائِهِ، وفي قولٍ ثالثٍ: أنَّها تنعقدُ بالنيَّةِ بلا تكبيرٍ، حكاه ابن المنذر، وابن العربيِّ عن الزهري، قالا: ولم يقلْ به غيره، وردَّ: بأن ابن التِّين حكاهُ عن الحسن بن صالح.
          وذهب طائفةٌ إلى أنَّها سُنَّة، وهو مرويٌّ عن ابن المسيَّب والحسن والحكم والزُّهري والأوزاعي وقالوا: إنَّ تكبير الرُّكوع يجزئهُ عنها، وروي عن مالكٍ أنَّها للمأموم سُنَّة دون غيره، ثمَّ قال: وحكى أبو الحسن الكرخيُّ عن ابن علية والأصم كقول الزهري.
          وأقول: لكن لم يثبتْ عنهم القول بالسنيَّةِ صريحاً، وإنما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعاً: تجزئهُ تكبيرةُ الركوع، قاله في ((الفتح)).
          وقال ابن بزيزة: قالت طائفةٌ بوجوب التَّكبير كلِّه، وعكس آخرون، منهم: الزُّهري وابن المسيَّب فقالوا: كله سُنَّة حتى تكبيرةُ الإحرام، وأنه يجزئ الإحرامُ بالنِّيَّة، وأوجب تكبيرةَ الإحرام الجمهور خاصَّةً، وأما غيرها فقام الإجماعُ على أنه لو تركها جازت صلاته، وعن أحمد: أنَّها واجبةٌ تبطل بالتَّرك عمداً، وإذا تركها سهواً تجبَّر بالسجود، وأما النِّيَّة فلم يختلفوا في إيجابها في الصَّلاة، قاله في ((الفتح)).
          وأما التَّكبير فإن حجَّة الجمهور قوله في الحديثِ الصَّحيح: ((فإذا كبَّر فكبِّرُوا))، فخصَّ تكبيرةَ الإحرام، وصحَّ أيضاً: ((تحريمُهَا التَّكبيرُ وتحليلُها التَّسليم))، وقال ابن رجبٍ: وأما حديث: ((مفتاحُها الطهور وتحريمُهَا التَّكبير وتحليلُهَا التَّسليم)) فليس من شرطِ البخاريِّ مع تعدُّد طرقه، انتهى.
          وحجَّة من سنها: أنَّ المراد بها الإعلام، فصارت كغيرها، ثمَّ اختلف العلماءُ هل يجزئُ الافتتاح بالتسبيح والتهليل مكان التَّكبير؟
          فقال مالكٌ وأبو يوسف والشَّافعي وأحمد وإسحاق: لا يجزئُ إلا الله أكبر؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام كان يقول: ((الله أكبر)) وقال: ((صَلُّوا كما رأيتُمُوني أصلِّي))، وقال الكوفيون: يجزئُ عن التكبير ما قام مقامهُ من تعظيمِ الله وذكره، / انتهى ملخَّصاً مع زيادة.
          وأقول: لكن أبو يوسف عمَّم في التَّكبير فجوزه بلفظ: الله كبير، معرَّفاً ومنكراً.
          وزاد في ((خلاصتهم)): والكبار مخففاً ومثقلاً.
          وفي قولِ ابن العربي _كابن المنذر_ أنه لم يقل: إن التَّكبير سُنَّة سوى الزهري، نظراً لما نقلهُ هو عن غيره، كالحسن والأوزاعي، فتأمَّل.
          وذكر فقهاؤنا لتكبيرةِ الإحرامِ شروطاً:
          أحدها: لفظ: الله أكبر، فلا يكفي الله كبيرٌ، ولا الرَّحمنُ أكبر، ولا يضرُّ زيادة لا تمنع الاسم بأن كانت بعدهُ مطلقاً نحو: الله أكبر من كلِّ شيءٍ من خلقه، أو بين جزئيهِ وقلت، وكان صفة نحو: اللهُ الجليل أو ╡ أكبر، بخلاف ما ليست بصفةٍ نحو: الله هو أو يا رحمن أكبر، وبخلاف ما لو طالت نحو: الله لا إله إلا هو أكبرُ.
          ثانيها: ترتيبهما فلا يكفي: أكبرُ الله على الصَّحيح، قيل: لأنَّه لا يسمَّى تكبيراً، وبه فارقُ إجزاء: عليكم السلام.
          ثالثها: كونها بالعربيَّة عند القدرة، فإن عجز عنها ترجمَ بأيِّ لغةٍ شاء، ولا يعدل لذكرٍ آخر، فإن عجز عن سائر اللُّغات نواها بقلبه.
          رابعها: عدم زيادةِ واو ساكنة بعد الهاء؛ لأنه يصيرُ جمع لاهٍ أو متحركة بين الكلمتين أو قبلهما.
          خامسها: عدم تشديد الباء أو الكاف، بخلاف الراء؛ فإنَّه لا يضرُّ على الصَّحيح.
          سادسها: عدم زيادة ألف، بل إن زادها بعد الباء وعلم معناها كفر؛ لأنَّه اسم طبلٍ.
          سابعها: موالاتهما، نعم لا يضرُّ سكتةٌ يسيرةٌ كسكتة التَّنفس.
          ثامنها: يجهرُ به بحيث يسمع نفسهُ لو خلي عن نحو صمم ولغط.
          تاسعها: عدم تكرارها، فلو كبَّر مرات ناوياً الافتتاح بكلِّ واحدةٍ دخل في الصَّلاة بالوتر وخرج بالشَّفع، فإن لم ينوِ ذلك ولا تخلل مبطل كإعادة، فما بعد المرَّة الأولى لفظ النِّيَّة ذكر لا يضر، ونظيرُ ذلك في الجملة قوله: إن حلفت بطلاقك فأنت طالقٌ، فإذا كرره طلقت بالثَّانية وانحلَّت بها اليمينُ الأولى، وبالرابعة وانحلَّتْ بها الثَّالثة، وبالسَّادسة وانحلَّت بها الخامسة.
          عاشرها: تشديدُ لام الله، فلو خفَّفها لم يكف.
          حادي عشرها: عدم إبدال الكاف همزة كما يقعُ من كثيرين، نعم إن عجزَ اغتفرَ له ذلك.
          قال في ((التحفة)): ويسنُّ جزم الراء وإيجابه غلطٌ، وأما حديثُ: ((التَّكبير جزمٌ)) فلا أصلَ له وبفرض صحته، المرادُ به: عدم مدِّه، كما حملوا عليه الخبر الصَّحيح: ((السَّلام جزمٌ))، على أن الجزم المقابل للرَّفع اصطلاحٌ حادثٌ، فكيف تحمل عليه الألفاظ الشَّرعيَّة؟
          ويسنُّ أيضاً أن لا يصل همزة الجلالة بنحو: مأموماً بل يقفُ وقفةً يسيرة جدًّا.
          وفي المسألة فروعٌ كثيرةٌ في كتب الفروع.