الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: ذكروا النار والناقوس فذكروا اليهود والنصارى

          603- وبالسند قال:(حَدَّثَنَا عِمْرَانُ) بكسر العين، البصريُّ، وبقيَّة رجال الإسناد بصريُّون أيضاً (ابْنُ مَيْسَرَةَ) بفتح الميم والسين بينهما تحتية ساكنة، قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ) أي: ابن سعِيد _بكسر العين_ قال: (حَدَّثَنَا خَالِدٌ) أي: الحذَّاء، كما لغير أبوي ذرٍّ والوقت والأصيلي (عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ) بكسر القاف، عبد الله بن زيد (عَنْ أَنَسٍ) أي: ابن مالك، كما للأصيلي.
          (قَالَ: ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ) أي: ذكر الصَّحابة في شأنِ الإعلام بوقت الصَّلاة بعضهم: إيقاد النَّار، وبعضهم: ضرب النَّاقوس (فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) كذا أورده مختصراً من رواية عبد الوارث، وسيأتي في الباب عقبه من رواية عبد الوهاب تماماً حيث قال فيه: لمَّا كثر النَّاس ذكروا أن يعلمُوا وقتَ الصَّلاة بشيءٍ يعرفونَهُ، فذكروا أن يوروا ناراً، أو يضْرُبوا ناقوساً.
          قال في ((فتح الباري)): وأوضحُ من ذلك رواية رَوح بن عطاء عن خالدٍ، عند أبي الشَّيخ بلفظ: ((فقالوا: لو اتَّخذنا ناقُوساً فقال النَّبي صلعم: ذاك للنَّصارى، فقالوا: لو اتَّخذنا بوقاً، فقال: ذاك لليهود، فقالوا: لو رفعنا ناراً، فقال: ذاك للمجُوسِ))، فعلى هذا ففي رواية عبد الوارثِ اختصار، كأنه كان فيه ذكروا النَّار والنَّاقوس والبوق فذكروا اليهود والنَّصارى والمجوس، واللَّف والنَّشر فيه معكُوسٌ فالنَّار للمجُوس، والنَّاقوس للنَّصارى، والبوق لليهود، وسيأتي في حديث ابن عُمر التَّنصيص على أنَّ البوق لليهودِ.
          وقال الكرمانيُّ: يحتمل أن تكون النَّار والبوق جميعاً لليهود، جمعاً بين حديثي أنس وابن عمر، انتهى.
          ورواية روح تغني عن هذا الاحتمالِ.
          (فَأُمِرَ بِلاَلٌ) بالبناء للمفعول، في أكثرِ الرِّوايات، ووقعَ في رواية روح المار آنفاً: ((فأمرَ)) أي: النَّبي صلعم بلالاً كما يدلُّ له سياقُه، وأصرحُ من ذلك رواية النَّسائي وغيره: عن قتيبةَ عن عبدِ الوهَّاب بلفظ: ((أنَّ النَّبي صلعم أمر بلالاً)).
          قال الحاكمُ: صرَّح برفعه قُتيبة إمام الحديثِ بلا مُدافعةٍ، فتحمل رواية: ((فأمر)) المبني للمفعول على أن الآمر هو رسول الله صلعم؛ لأنَّ مثله يحمل على الرفع كما هو الرَّاجح عند الأصوليِّين، فيما إذا قال الصَّحابي مثل ذلك؛ لأنَّ الظَّاهر أن الآمر من له الأمر الشَّرعي الذي يلزم اتِّباعه، وهو رسولُ الله، ولأنَّ التَّقدير في العبادة إنما يؤخذُ عن توقيفٍ.
          (أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ) بفتح التحتية والفاء، من يشفع، من باب منع؛ أي: يجعله شفْعاً لفظين لفظين، كما يأتي بيانُه كالإقامةِ في الباب عقِبَ هذا مع بيان اختلَافِ العلماءِ، ولم أر من جوَّز في ((يشفعُ)) هنا ضم يائه وكسر فائه (وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ) أي: يأتي بها لفظة لفظة؛ أي: إلَّا قد قامت الصَّلاة، فإنَّه يأتي بها مرَّتين عند الشَّافعي عملاً بحديثٍ آخر سيأتي في الباب الآتي بلفظ: ((فأمرَ بلال أن يشفعَ الأذان، وأن يوترَ الإقامةَ إلا الإقامة)) ويفرِّدها عند مالك عملاً بظاهرِ هذا الحديثِ المؤيَّد عنده بعملِ أهل المدينةِ.
          تنبيه: ظاهر قوله: ((فأُمِرَ بلالٌ... إلخ)) يدلُّ على وجوبِ الأذان، والجمهور على أنَّه سنة.
          وأجيب: بأنَّ الأمر إنَّما وقع لصفةِ الأذان، في كونهِ شفعاً لا لأصله، سلَّمنا أنه لنفس الأذان، لكن الصِّيغة الشَّرعية لازمةٌ فيه، ولو كان نفلاً كالطَّهارة لصلاة النَّفل.
          وأجاب ابنُ دقيق العيد: بأنَّه إذا ثبت الأمرُ بالصِّفة لزم أن يكونَ الأصل مأموراً به.
          وقال البرماويُّ تبعاً للكرمانيِّ: واعلم أنَّ ظاهر الأمرِ الوجوبُ، والجمهور أنَّه سنَّة، فيُجاب: بأن الذي للوجُوبِ صيغة أفعل لا لفظ أمر، سلَّمنا لكن الصِّيغة الشرعيَّة واجبةٌ في الشيء، / ولو كان نفلاً كالطَّهارة لصلاة النَّفل، أو يقال: إنه فرضُ كفايةٍ، كما هو وجه عندنا، أو الإجماع منعَ حمله على ظاهرهِ، انتهى.
          ورد دعوى الإجماع بأنها غير صحيحةٍ، فقد قال كما في ((الفتح)) وغيره بوجوبهِ مطلقاً الأوزاعي وداود، وابن المنذر، وهو ظاهرُ قول مالك في ((الموطَّأ))، وحكي عن محمَّدِ بن الحسن، وقيل: واجب في الجمعة، وقيل: فرض كفايةٍ.
          وقال ابنُ الملقِّن: ثم المشهور عندنا سنيَّة الأذان والإقامة، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وعن مالك: يجب في مسجدِ الجماعة، وقال عطاء ومجاهد وداود: هو فرضٌ. وقال أحمد: فرضُ كفايةٍ، وقال ابنُ المنذر: هو فرض في حقِّ الجماعة في السَّفر والحضر، انتهى.
          وأقول: لم أر من صرَّح من الشُّراح بوجوب الإقامة مع أنَّ الحديثَ الدَّال لوجوبه يقتضِي وجوبها، ثمَّ رأيت الأسنوي قال في ((شرح منهاجِ النَّووي)): وقيل: فرضان على الكفايةِ لظاهرِ الأمر بهما، ولأنهما من الشَّعائر الظَّاهرة وفي تركهمَا تهاون.
          وقيل: فرضَا كفايةٍ في الجمعة دون غيرها، وقيل: يجبان في اليوم واللَّيلة مرَّة، وأطالَ في ذلك.
          وقال في ((منتهى الحنابلة)) مع شرحه لمصنِّفه: وهما؛ أي: الأذان والإقامة فرضُ كفايةٍ، لقوله صلعم فيما رواهُ أحمد والطَّبراني، عن أبي الدَّرداء: أن النَّبي صلعم قال: ((ما من ثلاثةٍ لا تؤذَّن ولا تُقام فيهم الصَّلاة، إلَّا استحوذَ عليهم الشَّيطان)).