الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب سنة الجلوس في التشهد

          ░145▒ (بَابُ: سُنَّةِ الجُلُوسِ) أي: بيانُ الهيئةِ المسنونة للجلوسِ (فِي التَّشَهُّدِ) كالافتراشِ تارةً، والتَّورك أخرى، ويحتمل أن يرادَ بيان نفس الجلوسِ إن حملت السنَّة على الطَّريقة المحمَّدية، وهي أعمُّ من الواجب والمندوبِ.
          وقال ابنُ المنيِّر: ضمن المصنِّف هذه التَّرجمة ستَّة أحكامٍ: بيان هيئةِ الجلوس غير مطلقِ الجلوس، والتَّفرقة بين الجلوسِ للتشهُّد الأوَّل والأخيرِ، وبينهما وبين الجلوسِ بين السَّجدتينِ، وأنَّ ذلك كلَّه مسنونٌ، وأنَّه لا فرق بين الرِّجال والنِّساء، وأنَّ العالم يحتجُّ بعمله.
          واعترضه في ((الفتح)) في الأخيرِ فقال: إنَّما يتمُّ إذا ضمَّ أثر أم الدَّرداء إلى التَّرجمة.
          (وَكَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ) يأتي قريباً الاختلافُ فيها (تَجْلِسُ فِي صَلَاتِهَا جِلْسَةَ الرَّجُلِ) بكسر جيم ((جِلسة)) لأن المرادَ: الهيئة.
          قال ابنُ التِّين: كذا رويناهُ بكسر الجيم؛ أي: كانت تجلسُ في الصَّلاة كهيئةِ جلوس الرَّجل من افتراشٍ وتورُّكٍ في محلهما.
          وقوله: (وَكَانَتْ فَقِيهَةً) أي: عارفةً بالفقهِ، من كلامِ مكحُول كما جرَى عليه في ((فتح الباري))، وكان شقيقٌ يقول ذلكَ فيها أيضاً، وقيل: من كلامِ البخاريِّ كما استظهرَه مُغلطَاي وابن الملقِّن، ولم يجزما بهِ، كما قال القسطلانيُّ.
          وردَّه في ((الفتح)): بأنَّه ورد تامًّا في ((مسند الفردوس)) بسندهِ إلى مكحولٍ، وأمَّا قوله: ((وكانت أمُّ الدَّرداء... إلخ)) فهو تعليقٌ من البخاريِّ جزماً، وقد وصله المصنِّف في ((تاريخه الصَّغير)) من طريقِ مكحول بهذا اللَّفظ، وكذا ابنُ أبي شيبة من هذا الوجهِ، لكن لم يقع له قولُ مكحول في آخرهِ: ((وكانت فقيهة)).
          قال في ((الفتح)): وعرفَ من روايةِ مكحول أنَّ المراد بـ((أمِّ الدَّرداء)) الصُّغرى التَّابعيَّة؛ لأنَّ مكحولاً أدركها دون الكُبرى الصَّحابيَّة، فلم يورد المصنِّف أثر أمِّ الدَّرداء ليحتجَّ به، بل للتَّقوية؛ لأنَّ عمل التَّابعي بمفردهِ ولو لم يخالف لا يحتجُّ به أصلاً، وأمَّا قول الصَّحابي بمفردهِ فيحتجُّ بهِ إذا لم يكن للرَّأي فيه مجالٌ، وجزم الكرمانيُّ بأنَّها: خيرة، وهي الصَّحابيَّة بخلاف التابعيَّة، فاسمها: هجيمة.
          ونقل ابنُ الأثير أنَّ ابن منده وأبا نُعيم جعلا خيرة أمُّ الدَّرداء الكبرى وهجيمة واحدةً، وردَّه بمخالفتهما في الاسم؛ فإنَّ الكبرى اسمها: خيرة وصحابيَّة، والصُّغرى اسمها: هجيمة وتابعيَّة، وقال: ما سواهُ وهمٌ.
          وقال العينيُّ: إطلاقُ البخاري هنا يحتمل الكُبرى والصُّغرى، لكن احتمال الكُبرى يقوِّيه قوله: ((وكانت فقيهةً)) انتهى.
          ولا يخفَى ما فيه لجواز كونِ التَّابعيَّة فقيهة أيضاً.
          وقال ابنُ الملقِّن: أمُّ الدَّرداء الصُّغرى اسمها: هجيمة، وقيل: جهيمة، وقيل: جمانةَ بنت حيي الوصابيَّة، وهي تابعيَّة، حجَّت سنة إحدى وثمانين، وخطبها معاويةُ، وأمَّا الكبرى فاسمها: خيرة بنت أبي حدردٍ الأسلمي، نزلت الشَّام، وماتت في خلافةِ عثمان، وتقدَّمت في بابِ فضْل صلاة الفجْرِ في الجماعةِ.
          تنبيه: ما ذكره المصنِّف عن أمِّ الدَّرداء من الحكمِ مطابقٌ للتَّرجمة، فإن فيه بيانَ هيئة الجلوسِ في الصَّلاة للمرأةِ، وأنَّها مثل الرَّجل في ذلكَ.
          وقال ابنُ الملقِّن: وبه قال النَّخعي ومالكٌ، وروي عن مالكٍ: أنَّها تجلس على وركها الأيسرِ، وتضع فخذهَا الأيمن على الأيسرِ، وتضمُّ بعضها إلى بعضٍ قدر طاقتها، ولا تفرِّج في ركوعٍ / ولا سجودٍ ولا جلوسٍ بخلاف الرَّجل.
          وقالت طائفةٌ: تجلس كيف شاءت إذا تجمَّعت، منهم: عطاء وحمَّاد والشَّعبي والحنفيُّون والشَّافعيون، وكانت صفيَّة تصلِّي متربِّعة، ونساءُ ابن عمر كن يفعلنَه.
          وقال بعضُ السَّلف: كنَّ النِّساء يؤمرن أن يتربعنَّ إذا جلسن في الصَّلاة، ولا يجلسنَ جلوس الرِّجال على أوراكهنَّ، فيتقى أن يكون منهنَّ الشَّيء. انتهى.