الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الكلام في الأذان

          ░10▒ (بابُ: الكَلَامِ في الأَذَانِ) أي: جواز التكلُّم في أثناءِ الأذانِ بغير ألفاظهِ، ومثله الإقامة، ويحتملُ أنَّ المصنِّف يرى بينهما فرقاً، فتدبَّر.
          وجرى المصنِّف على عادته في عدمِ الجزم بالحكمِ؛ لأنَّ دلالة الحديث عليهِ غير صريحةٍ، لكن ما أوردَه فيه مشعرٌ باختيارهِ الجواز، لكن محله ما لم يطل، وإلَّا ضر، وهو مذهب الشَّافعيِّ ومالك وأبي حنيفة وصاحبيه وأحمد، لكنَّه عند أحمد مكروهٌ بشرطهِ، وعند الشَّافعيِّ خلاف الأولى، بل نقل الأسنوي: أنَّه رأى القولَ بالكراهةِ منقولاً عن النَّصِّ.
          قال في ((المنتهى)) و((شرحه)): فإن تكلَّم المؤذِّن في أثنائهِ بكلامٍ محرَّم، أو سكت طويلاً بطلَ، وكره بيسير غيره، وسكوتٍ بلا حاجة.
          قال في ((الفروع)): ويكرهُ فيه كلام وسكوتٍ يسير بلا حاجةٍ كإقامة، انتهى.
          وقال في ((فتح الباري)): وحكَى ابنُ المنذر الجوازَ مطلقاً عن عروة والحسن وعطاء وقتادة، وبه قال أحمد، وعن إسحاق بن راهويه: يكرهُ إلَّا فيما يتعلَّق بالصَّلاة.
          واختاره ابنُ المنذر لظاهرِ حديثِ / ابن عبَّاس المذكور في البابِ، ونازعَ في ذلك الدَّاودي فقال: لا حجَّة فيه على جوازِ الكلام في الأذانِ؛ لأن القولَ المذكور مشروعٌ في الأذان في ذلك المحلِّ، وعن النَّخعي وابن سيرين والأوزاعي: الكراهة، وعن الثَّوري: المنع، وعن أبي حنيفة وصاحبيهِ: أنَّه خلاف الأولى، وعليه يدلُّ كلام مالك والشَّافعي، انتهى.
          ومثله في العينيِّ، ولا يخفى ما في بعضه كما عُرف ممَّا قرَّرناه ومن قولنا.
          واعلم أن شرط صحَّة الأذان دخول الوقتِ إلَّا في الأذان الأوَّل للصُّبح، فمِن نصف اللَّيل الثَّاني، وترتيبه وموالاتهِ وكون المؤذِّن مسلماً ذكَراً في أذان الرِّجال مميِّزاً، فلا يضرُّ كونُ المؤذِّن أعمى، لكنه يكرهُ كما يأتي، ولا فاسقاً خلافاً لأحمد في الفاسِقِ، ويؤيِّد ما قلناهُ أيضاً قول ابنِ رجب.
          واختلف العلماءُ في الكلامِ في الأذانِ والإقامةِ على ثلاثةِ أقوالٍ:
          أحدها: أنَّه لا بأس به فيهما، وهو قولُ الحسنِ والأوزاعيِّ.
          والثَّاني: يُكره فيهما، وهو قولُ ابنِ سيرين والشَّعبي والنَّخعي وأبي حنيفةِ ومالك والثَّوري والشَّافعي، ورواية عن أحمدٍ، وكلُّهم جعلَ الكلام في الإقامةِ أشد.
          والثَّالث: يكرهُ في الإقامةِ دون الأذانِ، وهو المشهورُ عن أحمدٍ، ونقلهُ عنه عامَّة أصحابهِ، انتهى فتأمَّله.
          (وتَكَلَّمَ سُلَيْمانُ بنُ صُرَدٍ) بضم الصاد المهملة ففتح الراء فإهمال الدال، مصروفاً في الأصولِ المعتمدةِ ابن أبي الجون الخزاعيِّ الصَّحابي، وكان اسمهُ في الجاهليَّة: يساراً، فسمَّاه النَّبي صلعم: سليمان، وكنيتُه: أبو المطرف وكان خيِّراً عابداً، نزلَ الكوفة.
          وقال ابنُ سعد: قتل بالجزيرةِ في ربيع الآخر سنة خمسٍ وستِّين عن ثلاثةٍ وتسعين سنة، وكان أميراً على التَّوابين أربعة آلاف يطلبونَ بدمِ الحسين بن عليِّ ♥، وبسطنَا ترجمتهُ في التَّراجم.
          (في أذَانِهِ) أي: في أثنائهِ، وقد وصلهُ المصنِّف في ((التاريخ)) عنه بسندٍ صحيحٍ بلفظ: ((أنَّه كان يؤذِّن في العسكرِ فيأمرُ غلامَه بالحاجةِ في أذانهِ))، ووصَله أبو نُعيم أيضاً شيخ المصنِّف في كتابِ الصَّلاة له.
          ومطابقته للتَّرجمة ظاهرةٌ.
          (وقال الحَسَنُ) أي: البصري (لا بَأْسَ أنْ يَضْحَكَ) أي: المؤذِّن (وهو يُؤَذِّنُ أو يُقِيمُ) قال في ((فتح الباري)): لم أره موصولاً، والذي أخرجَه عنهُ ابن أبي شيبةَ وغيره من طرقٍ عنه جوازُ الكلامِ بغير قيدِ الضَّحك.
          وقال ابنُ الملقِّن: وعن غُندر عن أشعث عن الحسن: لا بأسَ أن يتكلَّم الرَّجلُ في إقامتهِ.
          قال في ((الفتح)): قيل: وجه مطابقتهِ للتَّرجمة أن الضَّحك في الصَّلاة بصَوتٍ قد يظهرُ منه حرفٌ مفهم أو حرفان فأكثر فتفسدُ، والأذان عندَ من منع الكلام فيه مثلهَا، وذهبَ الأكثرُ إلى بطْلانِ الصَّلاة بتعمُّدِ الضَّحك إذا كان قهقهةً، ولو لم يظهر منه حرف فكذا الأذان، انتهى فتأمَّل.
          فإنَّه لا يدلُّ على جواز الكلام فيه كما مرَّ، فالصَّواب أن يقال: إذا جاز الضَّحكُ في الأذانِ والإقامةِ كان جوازُ الكلامِ فيهما أولَى، قاله شيخُ الإسلامِ.
          وقد يقال: لا يلزمُ في الضَّحك وجود لفظٍ، فلا يلزم من جوازِهِ جواز الكلامِ فضلاً عن الأولويَّة.
          وقال العينيُّ: ولو علَّق عنه ما رواه ابنُ أبي شيبةَ عن ابنِ عليَّة، قال: سألتُ يونسَ عن الكلامِ في الأذانِ والإقامةِ فقال: حدَّثني عبيدُ الله بن غلَّاب عن الحسنِ: أنَّه لم يكنْ يرى بذلك بأساً لكان أولَى وأوفقَ للمطابقةِ / .
          وقال ابنُ الملقِّن بعد أن ذكرَ ما ذكره العينيُّ من الحكمِ عن الحسن قال: وعن حجَّاج وقتادة وعطاء وعروة مثل ذلك، وكرهَه محمَّد بن سيرينَ والشَّعبي وإبراهيم، وعن الزُّهري: إذا تكلَّم في إقامتهِ يعيدُ، وكرهه إبراهيم أيضاً في روايةٍ.