الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون

          604-وبالسند قال:(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ) بفتح الغين المعجمة، قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) أي: ابن همَّام، قال: (حَدَّثَنَا) وفي بعضِ الأصولِ: <أخبرنا> (ابْنُ جُرَيْجٍ) بجيمين، مصغَّراً، عبد الملك، قال: (أَخْبَرَنِي نَافِعٌ) أي: مولى ابن عمر (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ) أي: عبد الله.
          (كَانَ يَقُولُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ) أي: مهاجرين من مكَّة (يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ) بفاء فتحتية ففوقية مفتوحات فحاء مهملة كذلك فتحتية مشددة فنون (الصَّلاَةَ) أي: يقدرون أحيانها ليدركوهَا في الوقت، وللكشميهني: <فيتحيَّنون للصَّلاة> بلام الجر؛ أي: يقدِّرون لها (لَيْسَ يُنَادَى لَهَا) مبنياً للمفعول.
          قال ابنُ مالك: فيه جوازُ استعمالِ ((ليس)) حرفاً لا اسم لها ولا خبرَ، وقد أشار إليه سيبويه، ويحتملُ أن يكون اسمها ضَمير الشَّأن، والجملة بعدها خبر.
          قال في ((الفتح)): ويؤيِّده رواية مسلم: ((ليس ينادى بها أحدٌ)).
          وأقول: رواية مسلم كرواية البخاريِّ، لكن ذكر فيها اسم ظاهر فلا يظهرُ التَّأييد.
          ومن أغربِ ما قيل في ((ليس)) ما ذكره الميدانيُّ في ((أمثاله)): أن أصلها لا أيس، ومعناه: لا موجود، أو لا وجود، ثم كثُر استعماله فحذفت الهمزة فالتقى ساكنان ألف لا وياء أيس فحذفت الألف وبقي ليس.
          (فَتَكَلَّمُوا) أي: الصَّحابة ♥. قال في ((الفتح)): لم يقع لي تعيين المتكلِّمين في ذلك (يَوْماً) أي: وقتاً (فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا) أمر (نَاقُوساً مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى) أي: الذي يضربون به لوقت صلاتهم.
          قال في ((التَّنقيح)): النَّاقوس: خشبة طويلةٌ، تضرب بخشبةٍ أصغر منها؛ أي: إعلاماً للدُّخول في صلاتهم، وفعله من باب قتلَ.
          وقال ابنُ الملقِّن: والنَّاقوس توقف الجواليقي في أنه معرَّب أو عربي، والنَّقس: ضرب النَّاقوس.
          قال في ((الصِّحاح)): وفي الحديث: ((كادوا ينقسون حتى رأى عبد الله بن زيد الأذان)) وصحَّف ابن التِّين: بالنون، فقال: كانوا ينقسون، ثم استشكله ولا إشكال، وفي أبي داود: ((حتَّى نقسوا أو كادوا أن ينقُسوا)).
          (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) سقطت الواو لأبي الوقت (بَلْ بُوقاً) أي: بل اتخذوا بُوقاً _بضم الموحدة_ وسقطتْ: <بل> من نسخة (مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ) بفتح القاف وسكون الراء.
          قال في ((الفتح)): ووقعَ في بعض النُّسخ: <بل قرناً>، وهي رواية مسلم والنَّسائي، والبوق والقرن معروفان، / والمراد: أنه ينفخ فيه فيجتمعونَ عند سماعِ صوتهِ؛ أي: لصلاتهم وهو من شعارِ اليهود، ويسمَّى أيضاً الشَّبُور _بالشين المعجمة المفتوحة والموحدة المضمومة الثقيلة_، ويسمَّى أيضاً: القُنْح _بضم القاف وسكون النون_.
          قال شيخُ الإسلام تبعاً للكرمانيِّ: ولا يُنافي هذا ما مرَّ من كون النَّار لليهود لجواز أنَّ لهم الأمرين.
          (فَقَالَ عُمَرُ) أي: ابن الخطَّاب ☺ (أَوَلاَ) بفتح الواو العاطفة؛ أي: أتقولون ولا (تَبْعَثُونَ رَجُلاً) زاد الكشميهني: <منكم> (يُنَادِي) بكسر الدال (بِالصَّلاَةِ) والفاء في ((فقال عمر)) فصيحة، والتَّقدير: فافترقوا، فرأى عبدُ الله بن زيد الأذانَ فجاءَ إلى النَّبي صلعم فقصَّ عليه فصدَّقه، فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصَّلاة، قاله القُرطبي.
          وردَّه في ((فتح الباري)): بأن سياقَ حديث عبد الله بن زيد يخالفُ ذلك، فإنَّ فيه: أنه لمَّا قصَّ رؤياه على النَّبي صلعم قال: فسمع عمرُ الصَّوت، فخرج فأتى النَّبي صلعم فقال: رأيتُ مثلَ الذي رأى، فدلَّ على أنَّ عُمر لم يكنْ حاضراً لما قصَّ رؤياهُ عبد الله.
          قال: والظَّاهر أنَّ إشارة عمر بإرسال رجلْ ينادِي بالصَّلاة كانت عقب المشاورة فيما يفعلونه، وأنَّ رؤيا عبد الله كانت بعد ذلك، فقد أخرجَ أبو داود بسندٍ صحيحٍ إلى أبي عُمير بن أنس: عن عُمومته من الأنصار قال: اهتمَّ النَّبي صلعم للصَّلاة كيف يجمعُ النَّاس لها، فقيل: أنصب راية عند حضُور وقت الصَّلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً فلم يعجبْه، الحديث، وفيه: فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتمٌّ، فأري الأذانَ فغدا على رسولِ الله.
          قال: وكأنَّ عمر رآه قبل ذلك فكتمَهُ عشرين يوماً، ثمَّ أخبر به النَّبي فقال: ((ما منعَكَ أن تخبرَنَا؟))، قال: سبَقَني عبد الله بن زيد فاستحييتُ، فقال رسول الله صلعم: ((يا بلال، قمْ فانظرْ ما يأمركَ به عبدُ الله بن زيد فافعله)).
          وهذا لا يخالفُ ما تقدَّم أن عبد الله بن زيد لما قصَّ منامه فسمعَ عمر الأذان، جاء فقال: قد رأيت؛ لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك إلَّا متراخياً عن إخبار عبد الله بن زيد، وليس في حديث أبي عمير التَّصريح بأن عمر كان حاضراً بخلافِ رواية عبد الله بن زيد، فإن فيها فسمعَ عمر الصَّوت، فخرجَ فأتى النَّبي صلعم فقال: لقد رأيتُ مثلَ الذي رأى، فإنه صَريحٌ في أنَّ عمرَ لم يكن حاضراً عند قصِّ عبدِ الله بن زيد رؤياهُ على النَّبي صلعم.
          وتعقَّبه العينيُّ بحديث أبي بشرٍ، عن أبي عُمير بن أنس ☺، عن عمومةٍ له من الأنصارِ، عند أبي داود فإنه قالَ فيه بعد قولِ عبد الله بن زيد: إذ أتاني آتٍ فأرَاني الأذانَ، وكان عمرُ قد رآه قبلَ ذلك فكتمَه، فقال له النَّبي صلعم: ((ما منعَكَ أن تخبرنَا...)) الحديث، وليس فيه أن عمرَ سمعَ الصَّوت فخرجَ، قال: فهو يقوِّي كلام القرطبي، ويردُّ كلام بعضهم؛ أي: ابن حجر.
          وأجاب في ((الانتقاض)): بأنه إذا سكت في رواية أبي عُمير عن قوله: فسمعَ عمر الصَّوت فخرجَ، وأثبتها ابنُ عمر إنَّما يكون إثبات ذلكَ دالاً على أنه لم يكنْ حاضراً، فكيف يعترضُ بمثلِ هذا.
          وأقول: حاصلُ كلام ((الفتح)) مع ((الانتقاض)) أن الفاء في قول ابن عمر: فقال عمر... إلخ، ليست فصيحة، كما قاله القُرطبي، بل هي عاطفة على فتكلَّموا، أو على فقال بعضهم، فإن هذا القول وقعَ من عمر عند التَّشاور قبل رؤيا عبد الله بن زيد الأذان، وهذه كان عمرُ حاضراً فيها عند التَّشاور، فرأى أن يُبعثوا رجلاً ينادِي بالأذان؛ أي: اللُّغوي وهو: الصَّلاة / جامعة، فأمرَ النَّبي صلعم بلالاً بذلك لما رأى عبد الله الأذان الشَّرعي، فأخبرَ النَّبي صلعم بذلك، فأمرَهُ أن يُلقيه على بلالٍ، فألقاهُ عليه فأذَّن الأذان الشَّرعي، فسمعَ عمر فخرجَ وجاء إلى النَّبي صلعم وحضرَ الصَّلاة، وكان قد رأى أيضاً الأذان، لكنَّه لم يخبرْ بذلك حتَّى مضَى عشرون يوماً لسبقِ عبدِ الله بن زيد بالإخبارِ له، ثم أخبرَ برؤياه النَّبي صلعم ولم يكن عُمر حاضراً في قصَّة الرُّؤيا فكيف يصِحُّ ما قاله القرطبي لاختلاف القصَّتين؟.
          وحديث عبد الله بن زيد وأبي عُمير لا يدلَّان على أنه كان حاضراً، بل حديث عبد الله صريح في أنه لم يكن حاضراً، وحديث أبي عمير ليسَ فيه تصريحٌ بالحضور ولا بعدمه، فليسَ بين الحديثين تنافٍ، فلا يتوجَّه انتصار العينيُّ للقرطبيِّ، والكلام في مقامينِ فلا يصحُّ بناء أحدهما على الآخر، فتأمَّل وأنصف.
          نعم يردُّ على ((الفتح)) أن حمل ((فسمعَ عمر الأذان فجاء فقال: قد رأيتُ)) على التَّراخي عن إخبار عبد الله بعشرينَ يوماً خلافِ الظَّاهر، لكنَّ الحامل عليه تصحيحُ الكَلامين، وتكون الفاء لمجرَّد التَّعقيب في الذِّكر.
          (فَقَالَ) بالفاء، ولأبي الوقت: <وقال> (رَسُولُ اللَّهِ صلعم: يَا بِلاَلُ، قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاَةِ) بالفاء؛ أي: اذهبْ إلى موضعٍ بارزٍ فناد به بالصَّلاة ليسمعكَ النَّاس، كذا فسَّره النَّووي متعقِّباً به من استنبطَ منه مشروعيَّة الأذان قائماً، كابنِ خزيمةَ وابن المنذر وعياض.
          نعم، هو في الواقع سنَّة فيه، وبه استدلَّ العلَّامة الجلال المحلِّيُّ للقيام موافقة لمن تعقَّبه النَّووي.
          وقال في ((فتح الباري)) متعقِّباً للنَّووي: وما نفَاه ليس ببعيدٍ من ظاهر اللَّفظ، فإن الصِّيغة محتملة للأمرين، وإن كان ما قاله أرجح، ونقل عن عياض: أنَّ مذهبَ العلماء كافَّة أن الأذان قاعداً لا يجوِّزهُ إلا أبو ثورٍ، ووافقَهُ أبو الفرجِ المالكيِّ.
          وتعقِّب: بأن الخلاف معروفٌ عند الشَّافعيَّة، وبأنَّ المشهور عن الحنفيَّة كلهم أن القيامَ سنَّة، وأنَّه لو أذَّن قاعداً صحَّ، والصَّواب ما قاله ابنُ المنذر: أنهم اتَّفقوا على أن القيام من السنَّة.
          وأقول: لعلَّ مراد عياض بقوله: أن الأذان قاعداً لا يجوِّزه إلَّا أبو ثور... إلخ؛ أي: جوازاً مستوي الطَّرفين؛ لأنه مكروهً عندهم فليس بمستوي الطَّرفين، فصحَّ نفيُ الجوازِ عندهم، فتدبَّر.
          وقوله: فناد بالصَّلاة، في رواية الإسماعيليِّ: ((فأذِّنْ بالصَّلاة)).
          قال القاضِي عياضٌ: المراد الإعلامُ المحضُ بحضُور وقتها لا خصُوصِ الأذان المشروعِ.
          وأغربَ ابنُ العربي فحملَ أذِّن على الأذانِ المشروع، فطعنَ في صحَّة حديث ابن عمر وقال: عجباً لأبي عيسى _يعني: التِّرمذي_ كيف صحَّحه، والمعروف أن شرعَ الأذان إنَّما كان برؤيا عبد الله بن زيد.
          وردَّه في ((الفتح)) فقال: ولا تدفعُ الأحاديث الصَّحيحة بمثلِ هذا مع إمكانِ الجمعِ الذي قدَّمناه ونقلناه عنه قريباً، ثمَّ قال: وكأن اللَّفظ الذي ينادِي به بلال للصَّلاة قوله: ((الصَّلاة جامعة))، أخرجه ابنُ سعد من مراسيل ابن المسيِّب، وظنَّ بعضهم أنَّ بلالاً أمر حينئذٍ بالأذان المعهود، فذكر مناسبة اختصاص بلال بذلك دون غيره؛ لكونهِ لمَّا عذب ليرجع عن الإسلام يقول: أحد أحد، فجوزي بولاية الأذان المشتملِ على التَّوحيد في ابتدائهِ وانتهائهِ، وهي مناسبةٌ حسنةٌ في اختصاصِ بلال بالأذان، لكن هذا الموضع ليس محلُّها.
          وحديث الباب أخرجه مسلم والتِّرمذي والنَّسائي.
          وفيه مشروعيَّة التشاور في الأمورِ المهمَّة، وأنَّه لا حرج على أحد من المتشاورين إذا أخبر بما أدَّى إليه اجتهاده، ثمَّ يفعلُ صاحب الأمر ما فيهِ المصلحة، / وفيه منقبةٌ ظاهرةٌ لعمر ☺.