الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف

          ░76▒ (بَابُ إِلزَاقِ المَنْكِبِ بِالمَنْكِبِ، وَالقَدَمِ بِالقَدَمِ) أي: طلبُ إلصَاق كلِّ واحدٍ بقرينه (فِي الصَّفِّ) أي: للصَّلاة، الإلزاق والإلساق والإلصاق بمعنى، مصادرُ المزيد بالهمز، ومجرده فعِل _بكسر العين_ لازم يعدى بالباء، والمصدرُ منه: لزوقاً ولسوقاً ولصوقاً، كجلوس.
          والمنكِب _بكسر الكاف_ والجمع: مناكبٌ، معروف كالقَدَم، بفتحتين.
          (وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ) بضم أول الأول وفتح أول الثاني، صحابيٌّ ابن صحابيٍّ، وأوَّلُ مولودٍ وُلِد للأنصار بعد قدوم النَّبيِّ صلعم ، وكان عاملاً لابن الزُّبير على الكوفة، وقتل سنة ست وستين بسلميَّةٍ، وتقدمت ترجمته في باب فضل من استبرأ، في كتاب الإيمان.
          (رَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا) أي: معشرَ الصَّحابة (يُلْزِقُ) بضم أوله وسكون اللام (كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ) أي: يلصقُ كعبه بكعبِ الذي بحذائه.
          وهذا التَّعليقُ طرفٌ من حديثٍ وصله أبو داود وابن خزيمة، وصحَّحه وأحمد وابن حبان من رواية أبي القاسمِ الجدلي قال: سمعت النُّعمان بن بشير يقولُ أقبل رسولُ الله صلعم على الناس بوجههِ فقال: ((أَقِيموا صُفُوفكم _ثلاثاً_ والله لتقيمُنَّ صُفُوفكم أو ليُخالفَنَّ اللهُ بين قُلُوبكم)) قال: فلقد رأيتُ الرَّجل منا يلزقُ منكبه بمنكبِ صاحبه، وركبتهُ بركبةِ صاحبه، وكعبهُ بكعبه.
          قال في ((الفتح)): واستدلَّ بحديث النُّعمان على أنَّ الكعب في آية الوضوء: العظمُ الناتِئُ في جانبي الرَّجل عند ملتقى السَّاق والقدم، وهو الذي يمكنُ أن يلزقه الرَّجل بكعب من بجنبه، خلافاً لمن ذهب إلى أنَّ الكعب: مؤخِّر القدم، وهو قولٌ شاذٌّ ينسب لبعض الحَنفية، ولم يثبته محقِّقوهم، وأثبته بعضهم في الحجِّ لا الوضوء، وأنكر الأصمعيُّ القول بأن الكعبَ في ظهر القدم، انتهى.
          واعترضهُ العيني فقال: هذا التفسير رواه هشامٌ عن محمد بن الحسن، ولكنه ما أراد الذي في الوضوء، وإنما أرادَ ما في الحج، فنسبة هذا لبعض الحَنفية على هذا غير صحيحةٍ.
          وأقول: ليتأمَّل ما وجه الاعتراض حينئذٍ، إلا أن يريد بهذا التَّفسير الذي أنكرهُ الأصمعيُّ، لا مؤخَّر القدم، لكن عبارته توهمُ ذلك، وعلى تسليم أنَّه الذي أنكرهُ الأصمعي فمن أين أنَّ القائل به منحصرٌ في محمد بن الحسن؟ لم لا يجوزُ أن يكون غيره؟
          فقد قال ابن الملقِّن: لا كما قال أهل / الكوفة أنَّه مؤخر القدم.
          وعلى الجملةِ: فعبارةُ العينيِّ كعبارة ((الفتح)) غير محرَّرةٍ، ويستفادُ منها أن للكعبِ ثلاثةُ إطلاقات، فافهم.