الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: يقوم عن يمين الإمام بحذائه سواءً إذا كانا اثنين

          ░57▒ (بَابٌ: يَقُومُ) أي: المأمومُ لدلالة المقامِ والإمام عليه (عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ بِحِذَائِهِ) بكسر الحاء المهملة وبذال معجمة ممدوداً؛ أي: بجانبه؛ أي: لا خلفهُ ولا مائلاً / بعيداً عنه (سَوَاءً) بالمد؛ أي: مساوياً له، حال أو صفة مصدر محذوف، أخرجَ به _كما قال ابن المنير_ من كان إلى جنبهِ بعيداً منه.
          واستظهرَ في ((الفتح)): أنَّ هذا خرجَ بقوله: ((بحذائه))، بل يكون بحيث لا يتقدَّم ولا يتأخَّر.
          وللأصيلي: <باب يقوم بحذاء الإمام عن يمينه>.
          (إِذَا كَانَا) أي: الإمامُ والمأمومُ (اثْنَيْنِ) بخلاف ما إذا كانوا ثلاثةً أو أكثر، فإنَّ الاثنين مثلاً يصُفَّان خلف الإمام، وأما الواحدُ، فالسُّنَّة له أن يكونَ عن يمينِ الإمام، لكن يتخلَّفُ عنه قليلاً عندنا فتكرهُ مسَاواته له كما في ((المجموع)).
          ولا يصفُّ الواحد خلفَ الإمام اتِّفاقاً على ما نقله بعضهم، فكأنَّه لم يعتدْ بخلاف النَّخعي فإنَّه قال: يقومُ خلفه إن رجا أن يجيء أحدٌ فيصفَّ معه، فإن ركع الإمامُ قبل مجيء أحدٍ قام عن يمينه، وهو حسن معنى، لكنه مخالفٌ للنَّص فلا يعولُ عليه، أشارَ إليه في ((الفتح)).
          وهذا في الرجال ولو صبياناً، أما النِّساء والخناثى، فالسنة خلفهُ ولو واحدةً، ولو صفَّ الواحدُ عن يساره أو خلفهُ كره، بل لا تصحُّ صلاتُهُ عند الحنابلة مع خلوِّ يمينهِ وصلَّى ركعة.
          وظاهرُ قول المصنِّف: ((سواء)) أنَّه إذا صف الواحد عن يمينهِ لا يتأخَّر عنه أصلاً، ولعلَّ مذهبه سنة المساواة كالحنفية، نعم في دلالة حديثِ الباب عليه بعدٌ كما في ((الفتح)) تبعاً للكرماني فإنه قال: لأنَّ جعله عن يمينه لا يدلُّ على أنه بحذائهِ سواء، إذ المتخلِّفُ قليلاً يصدق عليه أنَّه عن يمينه، فلا ينافي ما قالهُ الشَّافعيُّ: أنَّه يتخلَّفُ عنه قليلاً.
          وكأنَّ المصنف أشارَ بذلك كما في ((الفتح)) إلى ما وقعَ في بعض طرقه مما تقدَّم في الطَّهارة عن ابن عبَّاسٍ: فقمتُ إلى جنبهِ، وظاهرهُ المساواة.
          وروى عبد الرَّزَّاق عن ابن عبَّاس نحوه، وعن ابن جُريجٍ: قلت لعطاءٍ: الرَّجل يُصلِّي مع الرجل أين يكون منه؟ قال: إلى شقِّه الأيمن، قلت: أيحاذِي به حتى يصفَّ معه لا يفوتُ الآخر؟ قال: نعم، قلت: أيجبُ أن يساويه حتى لا يكون بينهما فرجةٌ؟ قال: نعم.
          وفي ((الموطأ)): أنَّ عبدَ الله بن عُتبة بن مسعودٍ قال: دخلت على عُمر بن الخطاب بالهاجرة، فوجدتهُ يسبِّح، فقمتُ وراءه فقرَّبني حتى جعلني حذاءهُ عن يمينهِ.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): الموجودُ في جميع الرِّوايات: ((بابٌ)) بالتنوين ((يقومُ...)) إلى آخر ما تقدم وأوردهُ ابن المنير بلفظ: ((بابُ من يقوم)) بإضافة ((بابُ)) إلى ((من))، وتردد بين كونها موصولةً أو استفهامية وقال: حكمةُ ذكرها كون المسألة مختلفاً فيها، انتهى.
          ثم قال فيه: والواقعُ: أن ((من)) محذوفة والسِّياقُ ظاهرٌ في أنَّ المصنِّفَ جازمٌ بحكم المسألةِ لا متردِّدٌ.
          واعترضهُ العينيُّ فقال: لا نسلم أنَّ الواقع أن ((من)) محذوفة، فكيف يجوزُ حذف ((من)) استفهامية كانت أو موصولة والنسخة المشهورةُ صحيحةٌ، ولا تحتاجُ إلى تقدير وارتكاب تعسُّف، بل الصَّواب: أن لفظة ((باب)) خبر مبتدأ محذوف، وجملة: ((يقوم)) خبر لمحذوف تقديره: ترجمته: يقوم المأموم... إلخ.
          وأقول: لا يخفى أنَّ معنى كلام ((الفتح)): أن ((من)) غير موجودة في جميعِ الروايات: سوى نسخةِ ابن المنير، وأنَّ المصنف جازمٌ بحكم المسألة فلا يعولُ على النسخة التي أثبتها ابن المنير؛ لأنَّها مخالفةٌ للواقع في جميع الروايات، مع أنَّها يترتب عليها أنَّ المصنف متردِّدٌ / في حكم المسألة، والسِّياق ظاهرٌ في خلافه، وليس معنى كلام ((الفتح)): أن ((من)) مقدرة وملاحظة في الرِّوايات التي ليست فيها كما ظنَّ العيني وبنى عليه اعتراضه. وما قاله في جملة: ((يقوم)) من التَّقدير والإعراب فتعسُّفٌ ظاهرٌ، بل هي مستأنفةٌ استئنافاً بيانياً.
          ثمَّ رأيته قال في ((الانتقاض)): وهذا مما يكثرُ التَّعجُّب منه من وقفَ عليه، انتهى.
          نعم، لو اعترضهُ بأنَّ دعواه أن جميع الروايات بحذف ((من)) غير مسلمة؛ لأنَّها شهادة نفي ولو ضمناً وابن المنير ثقة، وقد أثبت رواية بذكر ((من))، والمعنى عليه صحيحٌ مقدَّمٌ، وإن كان غيره أظهر ورواياتُهُ أكثر لكان له وجهٌ، فتأمَّل وأنصف.