الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الصف الأول

          ░73▒ (بَابُ الصَّفِّ الأَوَّلِ) أي: بيان فضيلته، وهو الذي يلي الإمامَ على الصَّحيح، وقيل: هو أول صفٍّ تامٍّ يلي الإمام لا ما تخلله شيءٌ كمقصورة، وقيل: المرادُ به: من سبق إلى محلِّ الصَّلاة، ولو صلى آخرَ الصُّفوف، قاله ابن عبد البر، واحتجَّ له بالاتفاق على أن من جاء أوَّل الوقت ولم يدخلْ في الصَّفِّ الأول فهو أفضلُ ممن جاء في آخرهِ وزاحم إليه.
          قال في ((الفتح)): ولا حُجَّة له في ذلك كما لا يخفى.
          وأقول: / لعلَّ وجهه: أن أفضليَّته للسَّبق في الزمان لا يقتضي أفضليَّته على من تقدَّم عليه في المكان الذي هو محلُّ التَّنازع والاختلاف، فتأمَّل.
          وقال النَّووي: القولُ الأول هو الصَّحيح المختار، وبه صرَّح المحقِّقون، والقولان الآخران غلطٌ صريحٌ، انتهى.
          وقال في ((فتح الباري)): وكأنَّ صاحب القول الثاني لحظ أن المطلق ينصرفُ إلى الكامل، وما فيه خللٌ فهو ناقصٌ، وصاحب القول الثَّالث لحظ المعنى في تفضيل الصَّف الأول دون لفظهِ، وإلى الأوَّل أشار البخاريُّ؛ لأنَّه ترجم بالصف الأول وحديثُ الباب فيه الصَّفُّ المقدَّم، وهو الذي لا يتقدَّمهُ إلا الإمامُ، انتهى.
          وردَّ العيني القول الثالث: بأنه وردَ في حديث أبي سعيدٍ مما خرَّجه أحمد: ((وإن خيرَ الصُّفوفِ صفوفُ الرِّجالِ المقدَّم، وشَرُّها المؤخَّر)) وأيَّد الثاني بما رواهُ أبو داود وغيره عن أبي سعيدٍ رفعه من قوله عليه الصلاة والسلام: ((رُصُّوا صُفُوفكم وإذا تخلَّل الصَّفَّ شيءٌ فلا رصَّ)).
          وأقول: وهو المرجَّح عند أحمد، فقد قال ابن رجب: والمنصوصُ عن أحمد: أنَّ الصَّفَّ الأول هو الذي يلي المقصورةَ، وأن ما تقطعهُ المقصورة فليس هو الأول، ثمَّ قال: وأما المنبر فلا يقطعُ الصَّفَّ الأول، وقالت طائفةٌ: الصف الأوَّلُ: هو الذي يلي الإمامَ بكلِّ حالٍ، ورجَّحه كثيرٌ من أصحابنا، ولم أقفْ على نصٍّ لأحمد فيه.
          ثمَّ قال رادًّا على ابن عبد البرِّ: وحملُ الأحاديثِ على البكور إلى المسجد خاصَّةً لا يصحُّ، وأنها لا تحتملُ إلا المقدَّم في المسجد، انتهى ملخَّصاً.
          والحكمةُ في التحريض على الصَّف الأول: المسارعةُ إلى إخلاص الذِّمَّة، والسبق لدخول المسجدِ، والقرب من الإمام، واستماع قراءته، والتَّعلُّم منه، والفتح عليه، والتَّبليغُ عنه، والسَّلامة من اختراق المارَّةِ بين يديه، وسلامة البال من رؤيةِ من يكون قُدَّامه، وسلامة موضعِ سجودهِ من أذيال المصلِّين.