الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا لم ينو الإمام أن يؤم ثم جاء قوم فأمهم

          ░59▒ (بَابٌ: إِذَا لَمْ يَنْوِ الإِمَامُ أَنْ يَؤُمَّ) وسقط: <أن يؤم> لابن عساكر (ثُمَّ جَاءَ) وللأصيلي: <فجاء> (قَوْمٌ) ومثلهم الواحدُ والاثنان (فَأَمَّهُمْ) بتشديد الميم؛ أي: نوى إمامتهم في أثناء الصَّلاة بقلبه. ويحتملُ على بعد أن معنى ((فأمهم)) فعل بهم فعل الإمام وإن لم ينوِ الإمامة.
          وجواب ((إذا)) محذوف تقديره: صحت مثلاً؛ لأنَّه لا يشترطُ له نيَّة الإمامة في صحَّة الاقتداء به على الصَّحيح _كما يأتي قول ابن الملقِّن_ وكذا إن لم ينوها، ومنه يعلمُ أن الجمُعة والمعادة والمنذورة وجمع المطر لا بدَّ فيها عندنا من نيَّة الإمامة له قبلَ دخوله فيها لتوقُّف صحَّتِها عليها، نعم يسنُّ له فيما عدَاها نيَّة الجماعة لينالَ فضلها.
          وإلا فلا، خلافاً للقاضي حسين فيمن لو صلَّى منفرداً ثمَّ اقتدَى به أحد ولم يعلم به حيث قال: ينال حينئذٍ فضيلة الجماعة. ولم يجزمْ المصنِّفُ بالحكم للخلافِ الآتي فيه.
          وقال في ((الفتح)): ولم يجزم المصنِّفُ بحكمِ المسألة لما فيه من الاحتمالِ، إذ ليس في حديثِ ابن عبَّاس التَّصريح بأن النَّبيَّ صلعم لم ينوِ الإمامة، أو نواها لكن في تحويلهِ إياه لمقام المأمومِ ما يشعرُ بالثاني، واستدلَّ ابن المنذر أيضاً بحديث أنسٍ الذي رواه مسلمٌ وعلَّقه البخاري في الصيام: أنَّ النَّبيَّ صلعم صلَّى في رمضان، قال: فجئتُ فقمتُ إلى جنبهِ، وجاء آخرُ فقام إلى جنبي حتى كنَّا رهطاً، ((فلما أحسَّ بنا النَّبيُّ صلعم تجوَّز في صَلاته))، الحديث.
          وهو ظاهرٌ في أنَّه لم ينوِ الإمامة ابتداءً / وائتموا به وأقرَّهم.
          وأقول: هو وإن كان ظاهراً في أنَّه لم ينوِ الإمامة ابتداءً، لكنه يحتملُ _كحديث الباب_ أنَّه نواها بعد اقتدائهم أو لم ينوها، وقد اختلف في ذلك، فعند الشَّافعيَّة: لا يشترط نيَّتها كما تقدَّم، وهو الصَّحيحُ من مذهب المالكيَّة، لا فرقَ بين الرجال والنِّساءِ ولا بين الفريضَةِ وغيرها.
          قال في ((الفتح)): وذهبَ أحمد إلى الفرقِ بين النَّافلة والفريضة فشرطها في الفريضَة دون النَّافلة، وفيه نظرٌ لحديث أبي سعيدٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم رأى رجلاً يصلِّي وحدَهُ فقال: ((ألا رجلٌ يتصدَّقُ على هذا فيصلِّي معه؟)) أخرجه أبو داود وحسَّنه الترمذيُّ وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبَّان والحاكم.
          وأقول: يتوجَّه النَّظر إن ثبت: أنَّ الذي صلَّى معه كان لم يصلِّ، وإلا فلا، فإنَّه يحتملُ أنَّه أعاد فتكون له نافلةٌ، فتأمَّل.
          وقال في ((الفتح)): والأصحُّ عند الشَّافعيَّة: لا يشترطُ لصحَّةِ الاقتداء أن ينويَ الإمامُ الإمامة.
          وقال ابنُ الملقِّن: وعند الشَّافعيِّ وزفر: أن نيَّة الإمامة ليست شرطاً فتجزئُ صلاة المأموم وإن لم ينوِ الإمام الإمامة، وفيه قولٌ ثان: أنَّها شرط، وأنَّ على المأمومِ الإعادة، قاله الثَّوري، وهو روايةٌ عن أحمد وإسحاق، وقولٌ ثالثٌ: أنَّه إذا نواها وكذا إن لم ينوها جازَ للرِّجال الصَّلاة خلفه، ولا يجوزُ للنِّساء إلا إذا نواهنَّ، وعن ابن القاسم نحوه، انتهى.
          وأقول: وهو مذهبُ أبي حنيفة أيضاً.
          لكن قال الكرمانيُّ: وقال أبو حنيفة: إذا نوَى الإمامة جاز أن يصلِّي خلفَه الرِّجالُ، وإن لم ينوهم، ولا يجوز للنِّساءِ أن يصلين خلفهُ إلا أن ينويهنَّ، انتهى.
          فانظر مفهومهُ، فإنَّه يفيد أنَّه لا بدَّ من نية الإمامة حتى في الرِّجال وإن لم ينوهِمْ، ولعلَّه قولٌ عندهم.
          وإليه يشيرُ قول العيني: والمذهبُ عندنا في هذه المسألة: أن نيَّةَ الإمام الإمامة في حقِّ الرجال ليست بشرطٍ؛ لأنَّه لا يلزمه باقتداء المأموم حكمٌ، وفي حق النساء شرطٌ عندنا لاحتمال فسادِ صلاته بمحاذاتها إياه، انتهى.
          ثمَّ قال ابن الملقِّن: وحديث ابن عبَّاس حجَّةٌ للشافعي ومن وافقه، ومن ادَّعى أنَّه عليه الصلاة والسلام نواها فعليه البيان. ولو قلب قالبٌ قول أبي حنيفة فقال: إن نوى أن يكون إماماً جاز للنِّساءِ أن يصلِّين خلفه ولم يجزْ للرِّجال، لم يكن له فرقٌ، ولم تكن الحُجَّة لهم إلا كالحُجَّة عليهم، وأيضاً: فإنَّ النساء كنَّ يصلين خلفهُ عليه الصلاة والسلام، ولم ينقل عنه أنَّه عينهنَّ بالنِّيَّة، ولا حصلَ منه تعليم ذلك. انتهى.