الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الجمع بين السورتين في الركعة

          ░106▒ (بَابُ الجَمْعِ) أي: جواز، أو حكمُ الجمع (بَيْنَ السُّورَتَيْنِ) اللام للجنس، فيوافق نسخة: <سورتين> بالتنكير (فِي الرَّكْعَةِ الوَاحِدَةِ) اللام أيضاً للجنس، فيوافق رواية أبي ذرٍّ وابن عساكر: <في ركعة واحدة> (وَالقِرَاءَةِ) أي: وجوازها (بِالخَوَاتِيْمِ) بمثناة تحتية بعد الفوقية، ولأبي ذرٍّ والأصيلي: بحذفها؛ أي: بأواخر السُّور (وَبِسُورَةٍ) بالموحدة، عطف على: ((بالخواتيم))، ولابن عساكرَ: <وسورة> عطفاً على ((الخواتيم)) (قَبْلَ سُورَةٍ) أي: وجواز القراءةِ بسورةٍ ثانياً واقعةٍ في المصحف قبل تلك بسورة، لكن يكرهُ تنزيهاً لما فيه من التَّنكيس بخلاف تنكيس الآيات فإنه حرامٌ، ولا تبطلُ به الصَّلاة فيهما كقراءة سورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ}، في الرَّكعة الثانية، بعد أن قرأ في الرَّكعة الأولى بسورة: {تبت} مثلاً، وهذا أعمُّ من أن يكون في ركعة أو ركعتين.
          قال مالكٌ: لا بأسَ أن يقرأَ في الثانية بسورةٍ قبل التي في الأولى، وقراءةُ التي بعدها أحبُّ إلينا.
          وفي ((شرح الهداية)) للحنفيَّة: هو مكروهٌ، قال: وعليه جمهورُ الفقهاء، منهم: أحمد، وترتيب السُّور من ترتيب النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام، وقيل: باجتهاد المسلمين، وصحَّحه الباقلاني.
          وأما ترتيبُ الآيات فلا خلاف بأنَّه من رسول الله صلعم، قاله ابن الملقِّن.
          (وَبِأَوَّلِ سُورَةٍ) أي: من أولها وقد اشتملتْ هذه التَّرجمة على أربع مسائلَ، وكلُّها تؤخذُ مما في المتن صريحاً إلا القراءة بالخواتيم فإنَّها بالقياس على القراءةِ بالأوائل، والجامعُ بينهما: أنَّ كلًّا منهما بعض سورةٍ، على أنَّه قد يؤخذُ من قوله الآتي: ((قرأ عمر بمئةٍ من البقرة)) لاحتماله المؤيَّد بقول قتادة: ((كلٌّ كتاب الله)).
          (وَيُذْكَرُ) ببنائه للمفعول (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ) بموحدة آخره، والسائب هو: ابن أبي السَّائب بن صيفي بن عابد _بموحدة فمهملة_ ابن عمر المخزومي، قارئ مكَّة وبها مات.
          وقال ابن الملقِّن: له صحبةٌ، مات قبل ابن الزبير، وأسلمَ عام الفتح، وكان شريك النَّبيِّ صلعم، فقال له عليه الصلاة والسلام: ((نعم الشَّريك كنت لا تُدارِي ولا تُمارِي)).
          (قَرَأَ النَّبِيُّ صلعم المُؤْمِنُونَ) بالواو على الحكاية، ولأبي ذرٍّ: <المؤمنين>، وللأصيلي: <{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}> (فِي الصُّبْحِ) أي: في صلاتها بمكَّة حين فتحها، كما في النسائي.
          وقال الرافعيُّ في ((شرح المسند)): قد يستدلُّ به على أن سورة المؤمنون مكيَّةٌ، وهو قولُ الأكثر، قال: ولمن خالف أن يقول: يحتملُ أن قوله: بمكَّة؛ أي: في الفتح، أو في حجَّة الوداع. انتهى.
          والمرادُ: شرعَ في قراءة هذه السُّورة لقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ) أي: قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ} [المؤمنون:45] (أَوْ ذِكْرُ عِيسَى) أي: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً} [المؤمنون:50] وقوله: ((ذكرُ)) مرفوعٌ أو منصوب؛ لأن ((جاء)) يستعمل لازماً ومتعدِّياً، وعليه ففاعل: ((جاء)) ضمير ((النَّبي)) صلعم (أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ) بفتح السين المهملة، كما في ((شرح مسلم))، وقد تضم وبسكون العين.
          وقال ابن التِّين: بفتح السين، كذا رويناه، وروي بضمها.
          وقال ابن رجب: السَّعلةُ: / من السُّعال قيَّده كثيرٌ من النَّاس بفتح السين، وقيل: إنه وهمٌ، وإن الصَّواب: ضمها، انتهى.
          ولابن ماجه: ((فلمَّا بلغ ذكر عيسى وأمه أخذتهُ سعلةٌ))، أو قال: ((شهقةٌ)) وفي رواية له: ((شرقةٌ)).
          (فَرَكَعَ) عطف على: ((أخذته)) عطف مسبِّبٍ على سببٍ، وفيه _كما قال ابنُ الملقن_ جواز قطعِ القراءة، والقراءة ببعض السُّورة، ولا خلافَ في جوازهِ، ولا كراهة إن كان القطع لعذرٍ، وكذا لغيره، لكنَّه خلاف الأولى وهو مذهبنا ومذهبُ الجمهورِ وأبي حنيفَةَ على الصَّحيح، وبه قال مالكٌ في رواية، والمشهورُ عنه: كراهته كروايةٍ عند الحنفيَّة إذا كان لغير ضرورةٍ، فلا يرد عليه حديث الباب فإنَّه لضرورةٍ.
          نعم، الكراهةُ لا تثبتُ إلا بدليلٍ، وأدلَّة الجواز مطلقاً كثيرةٌ غير هذا، تقدَّم بعضها، منها: حديث زيد بن ثابت: أنَّه عليه الصلاة والسلام قرأ الأعرافَ في ركعتين، ولا ضرورةَ.
          ومنها: ما رواه الدَّارقطني بإسنادٍ قويٍّ عن ابن عبَّاس: أنه قرأ الفاتحة وآيةً من البقرة في ركعةٍ، ومنها: ما رواه عبد الرَّزَّاق بإسنادٍ صحيحٍ عن الصِّدِّيق: أنه أمَّ الصَّحابةَ في الصُّبح بسورة البقرة قرأها في ركعتين، وهذا إجماعٌ منهم.
          ومنها ما رواه ابن حزمٍ محتجًّا به من حديث محمد بن عبد السَّلام الخُشَنِي أنَّه قال: غزونا خراسان، ومعنا ثلاثمائةٍ من الصَّحابة، فكان الرَّجل منهم يصلِّي بنا فيقرأُ الآيات من السُّورة ثم يركع.
          تنبيه: هذا التَّعليق الذي ذكره المصنِّف بصيغة التَّمريض وصله مسلمٌ، لكن في إسنادهِ عبد الله بن عمرو بن العاصي وخطَّأه الحُفَّاظ في ذلك، قالوا: وصوابه: عبد الله بن عَمرٍو المخزومي، نسبه لجدِّه الأعلى.
          لكن قال النَّووي: أنه تابعيٌّ حجازيٌّ، كما ذكرهُ البخاريُّ في ((تاريخه)) وابن أبي حاتم، وخلائق ولفظ مسلمٍ بسنده عن عبد الله بن السائب، قال: ((صلَّى لنا النَّبيُّ صلعم الصبح بمكَّة فاستفتح سورة المؤمنين، حتى جاءَ ذكر موسى وهارون أو ذكرُ عيسى _شك محمَّد بن عباد_ أخذت النَّبيَّ صلعم سعلةٌ فركعَ)) وفي روايةٍ بحذف: ((فركع))، وأخرجه الطَّحاوي عن عبد الله بن السَّائب بلفظ: ((حضرتُ رسولَ الله صلعم غداة الفتحِ صلاة الصُّبح فاستفتحَ بسورةِ المؤمنين، فلمَّا أتى على موسَى وعيسى _أو موسى وهارون_ أخذته سعلةٌ فركعَ))، انتهى.
          وفي الحديثِ: أن السُّعال لا يقطعُ الصَّلاة إذا غلبه، وإنَّ قطعَ القراءةِ لأجله أولى من التَّمادي في القراءة مع السُّعال أو التَّنحنح، ولو استلزم تخفيف القراءةِ فيما يستحبُّ فيه تطويلها.
          (وَقَرَأَ عُمَرُ) أي: ابن الخطَّاب ☺ (فِي الرَّكْعَةِ الأُوْلَى) أي: من الفجر (بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنَ البَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنَ المَثَانِي) هذا الأثرُ وصله ابنُ أبي شيبة من طريق أبي رافعٍ بلفظ: كان عمر يقرأ في الصُّبح بمائةٍ من البقرة، ويتبعها بسورةٍ من المثاني أو من صدورِ المفصل، ويقرأ بمائةٍ من آل عمران، ويتبعها بسورةٍ من المثاني، أو من صدورِ المفصل، انتهى.
          وإطلاقه محمولٌ على ما في البخاريِّ فيطابقُ ما في التَّرجمة؛ لأنَّ الجمعَ بين السُّورتين أعمُّ من أن يكون بين سورتين كاملتين، أو بين سورةٍ كاملة وبين بعضِ أخرى، أو بين بعضَين من سورتين، فافهم.
          قال التَّيمي: المثاني ما لم يبلغْ مائة آيةٍ، وقيل: المثاني عشرون سورةً، والمئين: إحدى عشرة سورة، وقيل: ما عدا السَّبع الطِّوال إلى المفصل.
          وقال النَّووي: قال العلماءُ: أوَّل القرآن السَّبع الطوال، ثمَّ ذوات المئين، وهي السُّورة التي فيها مائة آية ونحوها، ثمَّ المثاني، ثم المفصل، انتهى.
          وقال الجوهريُّ: المثاني من القرآنِ ما / كان أقلَّ من المئين، وتسمى فاتحة[الأصل: الفاتحة] [الكتاب] مثاني؛ لأنَّها تثنى في كلِّ ركعةٍ ويسمى جميعُ القرآن مثاني أيضاً لاقتران آية الرَّحمة بآية العذاب.
          وقال الأزهريُّ: سُمِّي القرآن العظيمُ كلُّه مثاني؛ لأنَّ القصص والأمثال تثنيت فيه.
          وذكر في ((المحكم)) فيه أقوالاً، منها: أنه سورٌ، أولها البقرةُ، وآخرها براءة.
          ومثلهُ في ((القاموس))، لكنه أطالَ في نقل الأقوال، وبذلك يعلم صحَّة ما في القسطلاني من أنَّه ما يبلغ مائة آيةٍ، وقد فصَّله كما في ((المحكم))، فتدبَّر.
          وقال ابنُ رجبٍ في ((المسند)): عن واثلة بنِ الأسقع مرفوعاً: ((أعطيتُ مكان التَّوراة السَّبع الطِّوال، وأعطيتُ مكان الزَّبور المئين، وأعطيتُ مكان الإنجيلِ المثاني، وفضلتُ بالمفصل))، انتهى.
          وهذه الأقسام الأربعةُ أعطي نبيُّنا عليه الصلاة والسلام كل واحدٍ منهنَّ في مقابله كتابٌ، إلا المفصل؛ فإنَّه قد فضل بها.
          (وَقَرَأَ الأَحْنَفُ) أي: ابن قيسٍ الكندي الصَّحابي الجليل، الذي يضربُ به المثل في الحلم، وتقدَّم ترجمته في كتاب الإيمان، وأنه ليس بصحابيٍّ رواية، فإنه وإن كان رأى النَّبيَّ صلعم، لكن قبلَ إسلامه، فما في القسطلاني وشيخ الإسلام تبعاً للعيني: أنَّه صحابيٌّ، لا يتمشى على الصَّحيح، فاعرفه.
          (بِالكَهْفِ فِي الأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِيُوسُفَ أَوْ يُونُسَ) شكٌّ من الراوي (وَذَكَرَ) أي: الأحنفُ (أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ) أي: ابن الخطَّاب (☺ الصُّبْحَ بِهِمَا) أي: على منوالِ ما صلَّى بهما.
          وهذا الأثرُ وصله أبو نعيمٍ في ((مستخرجه)) من طريق عبد الله بن شقيق، قال: صلَّى بنا الأحنف بن قيسٍ الغداةَ فقرأ في الركعة الأولى بالكهف، وفي الثانية بيونس _ولم يشكَّ_ وزعم أنه صلى خلف عمر كذلك ففيه المطابقةُ لقوله في التَّرجمة: ((وبسورةٍ قبل سورة)).
          (وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ) ☺ (بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنَ الأَنْفَالِ) أي: في الرَّكعة الأولى لقوله: (وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنَ المُفَصَّلِ) وتقدَّم ما فيه من الأقوال، وأن الأصحَّ عندنا: أنَّه من الحُجُرات إلى آخر القرآن.
          قال الخطَّابي: سمِّي بذلك لكثرة الفُصُول فيه.
          وأثر ابنِ مسعودٍ أخرجهُ عبد الرزاق وسعيد بن منصُور بلفظ: فافتتحَ الأنفالَ حتى بلغ: {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:40].
          قال في ((الفتح)): وهذا الموضعُ هو رأسُ أربعين آيةً، فالرِّوايتان متوافقتان وتبين بهذا أنَّه قرأ بأربعين من أوَّلها، فاندفعَ الاستدلالُ به على قراءة خاتمة السُّورة، بخلافِ الأثرِ عن عمر فإنه محتملٌ.
          قال ابن التِّين: إن لم تؤخذْ القراءةُ بالخواتيمِ من أثر عمر أو ابن مسعود، وإلَّا فلم يأتِ البخاريُّ بدليلٍ على ذلك، وفاتهُ ما قدَّمناهُ من أنه مأخوذٌ بالإلحاقِ المؤيد بقوله:
          (وَقَالَ قَتَادَةُ فِيمَنْ يَقْرَأُ سُورَةً وَاحِدَةً) ولأبي ذرٍّ: <بسورة واحدة> (فِي رَكْعَتَيْنِ) وللأصيلي: <في الركعتين> (أَوْ يُرَدِّدُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ) وهذا هو التَّكرير.
          قال ابن المنير: والذي يظهرُ أنه أخفُّ من قَسم السُّورةِ في ركعتين، فإن مالكاً ذهبَ إلى أن المصلِّي يقرأ في كلِّ ركعةٍ بسورةٍ، كما قال ابنُ عمر: لكلِّ سورةٍ حظُّها، ولا يقسِمُ السُّورة في ركعتين، ولا يقتصر على بعضها ويترك الباقي، ولا يقرأ سورةً قبل سورةٍ تخالف ترتيب المصحف. قال: فإن فعل ذلك كلَّه لم تفسدْ صلاته، بل هو خلاف الأولى، قال: وجميعُ ما استدلَّ به البخاريُّ لا يخالفُ ما قال مالك؛ لأنه محمولٌ على بيانِ الجواز.
          (كُلٌّ) أي: كلُّ ذلك (كِتَابُ اللَّهِ) تعالى؛ أي: على أيِّ وجهٍ من الصُّورتين يقرأ / فلا كراهةَ فيه؛ لأنَّه كلام الله، ويؤيد الصُّورة الأولى ما رواه النَّسائي من قراءته عليه الصلاة والسلام في المغربِ بآل عمران فرَّقها في ركعتين، ويؤيِّد الثانية حديث معاذِ بن عبد الله الجهني: أن رجلاً من جهينةَ أخبره: ((أنه سمعَ رسولَ الله صلعم يقرأ في الصُّبح: {إذَا زُلْزِلَتْ}، في الركعتين كلتيهما)) وترديدُ السُّورة لم يذكرهُ المصنِّف في الترجمة.
          قال ابن رشيدٍ: لعلَّ المصنِّف لا يقولُ به لما روي فيه من الكراهة عند بعض العُلماء.
          ونظر فيه في ((الفتح)): بأن المصنِّفَ لا يراعي هذا القدرَ إذا صحَّ له الدَّليل، انتهى.
          ولا كراهةَ عندنا في واحدةٍ من الصُّورتين، لكنَّه خلاف الأولى، بل نقل البيهقيُّ في ((مناقب الشَّافعي)): أن التَّرديد مستحبٌّ، وقتادة تابعيٌّ صغيرٌ يستدلُّ لقوله، ولا يستدلُّ به، وإنما أرادَ البخاريُّ منه قوله: ((كلُّ كتاب الله)) فإنه يستنبطُ منه جواز جميع ما ذكر في الترجمة، انتهى. وكره بعضُهم تفريق السُّورة.
          قال في ((الفتح)): الكراهةُ فيما يظهر: أن السُّورة مرتبطٌ بعضها ببعضٍ فأيُّ موضعٍ قطع فيه لم يكن كانتهائه إلى آخر السُّورة.
          ░774م▒ (وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) مصغراً، هو المعروفُ بالعُمري، هذا التَّعليق وصلَه الترمذيُّ، والبزَّار، وقال الترمذيُّ: حسن صحيحٌ غريب.
          (عَنْ ثَابِتٍ) أي: البُناني (عَنْ أَنَسٍ) ولأبي ذرٍّ والأصيلي كما في الفرع وأصله زيادة: <ابن مالك> (☺: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) اسمه: كُلثوم _بضم الكاف_ ابن هِدْم _بكسر الهاء وسكون الدال المهملة_ وقيل: هو قتادةُ بن النُّعمان، وتعقِّب: بأن في قصَّة قتادة كان يرددها في الليلِ وليس بإمامٍ، فتدبر.
          وقيل: هو كلثومُ بن زهدم، وأيَّده بعضُهم: بأنه كان أميرَ سريَّة، وكلثوم بن هِدم، مات أوائل ما قدِمَ النَّبي صلعم المدينة قبل أن تبعثَ السَّرايا.
          قال في ((الفتح)): إنهما قضيتان، ويدلُّ على تغايرهما أنَّ الذي في روايةِ الباب: كان يبدأ بـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وأمير السَّرية كان يختمُ بها، وفي هذا: أنه كان يصنعُ ذلك في كلِّ ركعة، ولم يصرِّح بذلك في قصَّة الآخر، وفي هذا: أنه قال: ((إنه يحبُّها فبشِّره بالجنة))، وفي أمير السَّرية قال: ((إنها صفةُ الرَّحمن، فبشِّره بأن الله يحبه)). انتهى ملخصاً.
          (يَؤُمُّهُمْ) بتشديد الميم (فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ) بالواو، ولأبي الوقت وابن عساكر والأصيلي: <فكان> بالفاء (كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً) ولأبي ذرٍّ والأصيلي: <بسورة> بموحدة (يَقْرَأُ) بالبناء للفَاعل (بِهَا) أي: السُّورة (لَهُمْ) أي: لأهل قباء (فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يُقْرَأُ بِهِ) ببناء ((يُقرَأ)) للمفعولِ، ولابنِ عساكر: <بها> بالتأنيث نظراً لمعنى ما، والتَّذكير نظراً للفظها.
          وقال الكرمانيُّ: ((مما يقرأ)): أي: من الصَّلوات التي يقرأ القرآن فيها جهراً (افْتَتَحَ) جواب ((كلما)) أي: ابتدأ القراءة بعد الفاتحة (بـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}) أي: بقراءتها قبلَ قراءة غيرها فيقرؤها (حَتَّى يَفْرُغَ) بضم الراء (مِنْهَا) أي: من قراءتها (ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَة) ولأبي ذرٍّ: زيادة موحَّدة (أُخْرَى مَعَهَا) أي: مع {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (وَكَانَ) أي: الرجل (يَصْنَعُ ذَلِكَ) أي: المذكور من الافتتاحِ بعد الفَاتحة بالإخلاصِ ثمَّ بسُورة أخرى (فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) أي: من الرَّكعات التي يندبُ فيها ضمُّ سُورة إلى الفاتحة.
          تنبيه: تمسَّك بعضُهم بقوله: ((افتتح بـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ})) على أنَّه لا يشترطُ قراءة الفاتحة، وأجيب: بأن الراوي لم يذكر الفَّاتحة استغناءً بالعلم / بأنها لا بدَّ منها، أو بأن ذلك قبل ورودِ الدَّليل الدَّال على اشتراطِ الفاتحة.
          (فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ) أي: بأن لا يفعل ذلك؛ لأنَّه خلاف المعهود لهم من فعلِ النَّبي صلعم (فَقَالُوا) بالفاء، ولأبوي ذرٍّ والوقت: <وقالوا> بالواو (إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لَا تَرَى) أي: لا تعتقدُ أو لا تظنُّ (أَنَّهَا تُجْزِئُكَ) بضم أوله وهمز آخره كما في الفرعِ وأصله، ويروى: <لا تَجزيك> بفتح أوله، من جزى، معتل بالألف (حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى) ولأبي ذرٍّ والأصيلي: <بالأخرى> بالتَّعريف (فَإِمَّا) بكسر الهمزة وتشديد الميم للتَّقسيم (أَنْ تَقْرَأَ بِهَا) ولغير أبي ذرٍّ: <فإما أن تقرأ>؛ أي: وحدها (وإِمَّا) قسيم إما الأولى (أَنْ تَدَعُهَا) أي: تتركها (وتَقْرَأَ بِأُخْرَى) أي: بسُورة غير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
          (فَقَالَ) أي: الرجل الإمام (مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ) بموحدتين بعد الحاء المهملة الساكنة (أَنْ أَؤُمَّكُمْ) بتشديد الميم؛ أي: أصير إماماً لكم (بِذَلِكَ فَعَلْتُ) أي: من قراءتها مع غيرها على معتادي (وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ): أي: فلا أصلي بكم إماماً.
          (وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ) وللأصيلي: <يرونه> (مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا) بكسر الراء (أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ) أي: إما لأنه من أفضلهم كما ذكر في هذا الخبر، وإما لأن النَّبي صلعم هو الذي جعله إماماً لهم.
          (فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صلعم أَخْبَرُوهُ الخَبَرَ): أي: المعهود، وهو ملازمتُه لقراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ومعها غيرها (فَقَالَ) أي: النَّبي صلعم (لَهُ) أي: للرجل (يَا فُلَانُ، مَا يَمْنَعُكَ) بفتح التحتية (أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ؟) أي: من قراءة سُورة الإخلاص وحدها أو قراءة غيرها فقط، وسمَّاه أمراً مع عدم صيغتهِ، بل وعدم وجودِ شرطها لو كانت؛ لأنَّه لازم من التَّخيير الذي ذكروهُ، فكأنَّهم قالوا له: افعلْ هذا أو هذا، مع أنَّ الحقَّ أن الأمر لا يشترطُ فيه علو ولا استعلاء.
          (وَمَا يَحْمِلُكَ) بفتح التحتية وسكون الحاء المهملة؛ أي: وما الباعثُ لك (عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ) أي: التزام ما التزمته من قراءةِ سورة الإخلاص (فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟ فَقَالَ) أي: الرجلُ مجيباً عن السُّؤال الثاني صريحاً، وعن الأول التزَاماً (إِنِّي أُحِبُّهَا) أي: ملازمتي لقراءة الإخلاص لمحبَّتي لها.
          قال في ((الفتح)): هو جوابٌ عن الثاني مستلزمٌ للأول بانضِمَامِ شيءٍ آخر، وهو إقامةُ السنَّة المعهودة في الصَّلاة.
          (فَقَالَ) أي: النَّبي صلعم (حُبُّكَ إِيَّاهَا) مبتدأ، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله؛ أي: حبك لسُورة الإخلاص (أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ) أي: سيدخلك، وعبَّر بالماضِي لتحقُّق الوقوع، فهنيئاً له، وذلك لأنَّها متعلِّقة بالله تعالى وبصفاتهِ، فحبُّها يدلُّ على حسنِ اعتقادِهِ في الدِّين؛ ولأنها تعدلُ ثلث القرآن.
          وفيه: جوازُ الجمْعِ بين سورتين في ركعة، وهو مذهبُ الأئمَّة الأربعة، ورُوي عن عثمان، وابن عمر، وحذيفة وغيرهم، وفيه: دليلٌ على فضلِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
          وممَّا جاء فيه ما ذكرَهُ ابن الملقِّن عن محمَّد بن كعب القُرَظِي أنه قال: مَنْ قرأَ في الضُّحى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عشر مرَّات بني له بيت في الجنَّة. انتهى.