الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب [جواز دعاء الله ومناجاته بكل ما فيه خضوع]

          ░90▒ (بَابٌ) بالتنوين من غير ترجمة، ثبت للأصيلي وكريمة.
          وكذا قال الإسماعيليُّ: وسقط في رواية أبوي ذرٍّ والوقت وابن عساكر. وكذا لم يذكره أبو نعيم.
          واستشكلَ وجه مناسبة الحديثِ الآتي للتَّرجمة السَّابقة.
          وأجاب الكرمانيُّ: بأن دعاء الافتتاح مستلزمٌ لتطويلِ القيام، وحديث الكسوفِ فيه تطويلُ القيام فتناسبا.
          واعترضَه العينيُّ: بأنه غير سديدٍ؛ لأنَّ الترجمة: باب ما يقول بعد التكبير، وليست في تطويل القيامِ، انتهى.
          وأجاب عن أصل الإشكالِ رادًّا على ((الفتح)) في قوله: إن المناسبةَ غير ظاهرةٍ، فقال: هي ظاهرَةٌ جدًّا، وهي في قوله: ((فقامَ فأطال القيام)) لأنَّ إطالة النَّبيِّ صلعم القيام كانت مشتملةً على قراءة الدُّعاءِ وقراءة القرآن، قد علم أن الدُّعاء عقبَ الافتتاح قبل الشُّروع في القراءة، فصدق عليه باب ما يقول بعد التَّكبير، انتهى.
          وأقول: من أين علمَ أن الدُّعاء في صلاة الكسوف كان عقبَ الافتتاح قبل الشُّروع في القراءة؟ فتدبَّر، ولو قال: إن الافتتاحَ في الصَّلاة مطلوبٌ، فالظَّاهر: أنه فعله، لكان أولى.
          ثمَّ قال / العيني أيضاً: وقال بعضهم: وأحسن من قول الكرمانيِّ ما قال ابن رشيدٍ: يحتمل أن تكون المناسبةُ في قوله: ((حتى قلت: أي ربِّ أو أنا معهم؟)) لأنه وإن لم يكن فيه دعاءٌ ففيه مناجاةٌ واستِعطافٌ، فيجمعه مع الذي قبله جوازُ دعاء الله ومناجاته بكلِّ ما فيه خضوعٌ، ولا يختصُّ بما ورد في القرآن خلافاً للحنفيَّة، انتهى.
          قلت: هذا كلامٌ طائح، أما أولاً: فلأنَّه لا يدلُّ على المقصود على ما لا يخفى على من له ذوقٌ.
          وأما ثانياً: فلأن العبدَ كيف يناجي ربَّه ويستعطفُهُ وهو ساكتٌ، ومقام المناجاةِ والاستعطاف يكونُ بكلِّ ذكرٍ يليق بذاتهِ وصفاتِهِ، والحالُ: أن الله تعالى حثَّ عبيده في غير موضعٍ في القُرآن، وحث نبيَّهُ في غير موضعٍ في حديثه بذكره ومدح الذَّاكرين، وكلُّ ذلك باللسان، وهو ترجمانُ القلب، ومجرَّدُ الخضُوع لا يُغني عن الذِّكر، والحسنُ في الخضوع مع الذكر.
          وأما ثالثاً: فكيف يقول: ولا يختصُّ بما وردَ في القرآن؟ أفيليقُ للعبد أن يقولَ في صلاته وهي محلُّ المناجاة والخضُوع: اللَّهمَّ أعطني ألف دينارٍ مثلاً، أو زوِّجني امرأةً فلانيَّةً؟ وهذا ينافي الخُضُوع والخشوعَ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ صلاتنا هذه لا يصلُحُ فيها شيءٌ من كلام النَّاس))، الحديث، انتهى.
          وأقول: لا يخفى ما فيه لمن تأمَّل، وكذا ما أبدوهُ من المناسبة.
          وقال ابن الملقِّن في وجه المناسبة: والذي ظهرَ لي فيه: أنَّ الإمام له أن ينظر ما أمامه، فإن الشَّارعَ رأى الجنَّةَ والنار في الصلاة، وقد ذكر بعده حكمَ رفع البصر إلى الأمامِ وإلى السَّماء، انتهى.
          وأقول: لا يخفى ما فيه أيضاً وإن سبقهُ إليه ابن رجبٍ حيث قال: مقصوده بإيراد الحديثِ في هذا الباب: أن المصلِّي له النَّظر في صلاته إلى ما بين يديهِ، وما كان قريباً منه ولا يقدحُ ذلك في صحَّة صلاته، ولكن المنظورَ إليه نوعان:
          أحدهما: ما كان من الدُّنيا الملهيَّة، فهذا يكره النَّظر إليه في الصَّلاة؛ لأنَّه يلهي.
          والثاني: ما ينظر إليه مما يكشفُ من أمور الغيب، فالنَّظرُ إليه غير قادحٍ في الصَّلاة؛ لأنَّه كالفكر فيه بالقلب، انتهى.
          ثم قال: وفي الجملة: فإن كان البخاريُّ ذكر هذا الباب للاستدلالِ بهذا الحديثِ على أن نظر المصلِّي إلى ما بين يديه غير قادحٍ في صلاته، فلا دلالةَ فيه على النَّظر إلى الدُّنيا ومتعلَّقاتها، وإن كان غرضهُ الاستدلال على استحباب الفكرِ للمصَلي في الآخرة ومتعلَّقاتها وجعلَ نظر النَّبيِّ صلعم إلى الجنَّة والنار بقلبهِ كان حسناً؛ لأن المصلِّي مأمورٌ بأن يستغرقَ فكرهُ في قربهِ من الله تعالى، وفيما وعدَ وأوعدَ، انتهى.
          وأقول: لو قيل: إن الظَّاهر عدم الفرقِ بين الكُسُوف وغيره في طلبِ دعاء الافتتاحِ، فيكون النَّبيُّ صلعم فعله، وهو قبل القراءة بعد التَّكبير، فتدبَّر.