الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة

          ░80▒ (بَابٌ: إِذَا كَانَ بَيْنَ الإِمَامِ وَبَيْنَ القَوْمِ) أي: المقتدينَ به (حَائِطٌ أَو سُتْرَةٌ) أي: أو نحوهما كطريق، وجواب ((إذا)) محذوف مقدر بنحو: لا يضرُّ ذلك بالاقتداء، كما يومئُ إليه الأثران، وللخلافِ في الحكم لم يجزمْ بالترجمة كعادتهِ، ومذهبُ مالكٍ: الجواز مطلقاً، وهو المنقولُ عن أنس وأبي هريرة وابن سيرين وسالم، وكان عروةُ يصلِّي بصلاة الإمام، وهو في دارٍ بينها وبين المسجد طريقٌ.
          ومنهم من قال: إن كان في المسجدِ فلا يضرُّ ما ذكر والأضر مذهب الشَّافعية فالشَّرطُ عندهم في المسجد: العلمُ بانتقالات الإمام برؤيته أو سماع صوتهِ أو صوت مبلِّغٍ وإن بعدت المسافة بينهما وحال حائلٌ من حائطٍ أو سترة أو غيرهما، وأما في غير المسجدِ ففيه أقوالٌ وطرقٌ مبينة في الفروع، والرَّاجح منها: أنَّه لا بدَّ أن لا يزيدَ ما بينهما على ثلاثمائة ذراعٍ بذراعِ الآدمي، وأن لا يحولَ بينهما ما تقدَّم مما يمنعُ الوصولَ إليه أو إلى الرابطةِ من غير ازورار، وقيل: لا يضرُّ إن منعَ المرورَ لا الرُّؤية كالشباك.
          وعلى كلٍّ فلا يضر النَّهر المحوج إلى سباحةٍ، وكذا الشارع المطروقُ، فلو وقفَ بسطحِ بيتهِ والإمام بسطح المسجدِ أو بالعكسِ وبينهما طريق، فالأصحُّ: الصِّحة إن أمكنَ التَّوصُّل إليه عادةً، كما قيَّد به الرمليُّ.
          وقال ابنُ رجبٍ: مرادُ البخاري بهذا الباب: أنَّه يجوزُ اقتداء المأمومِ بالإمام وإن كان بينهما طريقٌ أو جدارٌ يمنع المأموم من رؤيةِ إمامهِ إذا سمعَ تكبيره، وفيه مسألتان:
          الأولى: إذا كان بينهما طريقٌ أو نهرٌ، وقد حكي جوازه في النَّهر عن الحسن، وفي الطَّريقِ عن أبي مجلز، وبه قال الأوزاعيُّ والثوري، وكره أبو حَنيفة وأحمد الاقتداء إذا كان بينهما طريقٌ لا تتَّصل فيه الصفوف، فإن فعلَ فقال أبو حنيفة: لا تجزئهُ صلاته، وفيه عن أحمد روايتان، والنَّهر الذي تجري فيه السُّفنُ كالطريق عند أحمد، وعنه: جوازه، ولا يختصُّ الجواز بالجمعةِ على الصَّحيح.
          وقال عمر بن الخطَّاب: من صلَّى وبينه / وبين الإمام نهرٌ أو جدارٌ أو طريقٌ لم يصلِّ مع الإمام، وهو مذهب إسحاق أيضاً، نعم لا يضرُّ النهر الغير المحوجِ إلى سباحةٍ، وكره آخرون الصَّلاة خلف الإمام خارجَ المسجد، فقد رويَ عن أبي هريرة وقيس بن عبادة أنَّهما قالا: لا جُمُعة لمن لم يصلِّ في المسجد، ورخَّصت طائفةٌ في الرحاب المتصلة بالمسجد، منهم: الشَّافعي والنَّخعي وكذلك مالك، وزاد: أنَّه يصلي فيما اتَّصل بالمسجدِ من غيره، ولم يشترط أحمد رؤية الإمامِ ولا من خلفه، بل يكفي فيه سماع التَّكبير، واشترطها بعض أصحابه.
          المسألةُ الثانية: إذا كان بينهما حائلٌ يمنع الرُّؤية، فقد حكى البخاريُّ عن أبي مجلز: جواز الاقتداءِ به إذا سمع تكبير الإمام، وأجازهُ أبو حَنيفة وإسحاق، وتقدَّم عن الشَّافعي منعه، انتهى ملخَّصاً.
          (وَقَالَ الحَسَنُ) أي: البصريُّ (لَا بَأْسَ أَنْ تُصَلِّيَ، وَبَيْنَكَ) أي: أيُّها المقتدي (وَبَيْنَهُ) أي: الإمامُ (نَهْرٌ) أي: سواءٌ أحوج إلى سباحةٍ أم لا، ولابن عساكر: <نُهَير> مصغَّراً، وهو الذي يمكن المرورُ فيه من غير سباحةٍ، وهذا لا يضرُّ جزماً لكنه يدلُّ _كما قال العيني_ على أن الكثيرَ يمنع الائتمام به، وهو الذي تمشي فيه السُّفُن، وهو مذهب الحنفية، لا فرقَ عندهم بين المسجدِ وغيره.
          قال في ((الفتح)): ولم أرَ هذا التعليق موصولاً بلفظه، وروى سعيد بن منصورٍ بإسنادٍ صحيحٍ عنه في الرَّجل يصلِّي خلف الإمام أو فوق سطحٍ يأتمُّ به؟ لا بأس بذلك.
          (وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ) بكسر الميم وسكون الجيم فلام مفتوحة فزاي، واسمه: لاحق _بالحاء المهملة والقاف_ ابن حُمَيد_مصغَّراً_ السَّدوسي البصري ثمَّ المروزي الأعورُ الأسود، التابعي، مات سنة ست ومائة، على ما قال الكرمانيُّ.
          وقال العينيُّ: مات بظهر الكوفةِ سنة مائة أو إحدى ومائة.
          وأثرهُ وصله ابن أبي شيبةَ عن معتمر عن ليث بن أبي سليم عنه بمعناه، وليثٌ ضعيفٌ، لكن أخرجه عبد الرَّزاق عن ابن التيمي _وهو معتمرٌ_ عن أبيه عنه، فإن كان مضبوطاً فهو إسنادٌ صحيحٌ، قاله في ((الفتح)).
          وقال في ((التقريب)): أبو مجلز: مشهورٌ بكنيته، ثقةٌ من كبار الطَّبقة الوسطى من التَّابعين، مات سنة ست، وقيل: سبع ومائة، وقيل قبلَ ذلك، انتهى.
          (يَأْتَمُّ) أي: يقتدي الشَّخص (بِالإِمَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَو جِدَارٌ) ((أو)) للتنويع، وظاهره: وإن لم يجمعهما مسجدٌ، وهذا مذهبنا في الطَّريق على الصَّحيح دون الجدار، فإنَّه لا بدَّ فيه عندنا من كونهما في المسجد، ولعلَّ مذهب أبي مجلزٍ التَّعميم (إِذَا سَمِعَ) بكسر الميم (تَكْبِيْرَ الإِمَامِ) أي: أو مبلغ عنه.