الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة

          ░38▒ (بَابٌ: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) أي: شرعَ في إقامتها ومثلها: إذا قرُبتْ إقامتها (فَلَا صَلَاةَ) أي: كاملة، لا صحيحة وإن كان تقديرها أقرب إلى نفيِ الحقيقَةِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم لم يأمرْ المصَلِّي بقطعِ صَلاته، بل أنكَرَ عليه فقط، فدلَّ على أنَّ المرادَ نفيُ الكمَال، وأنَّ النَّهي للتَّنزيه، أو المعنى: فلا تصلُّوا حينئذٍ (إِلَّا المَكْتُوبَةَ) أي: / المفروضَة المؤدَّاة، ويؤيِّدُه ما في ((تاريخِ البخاريِّ)) والبزار وغيرهما: عن أنسٍ مرفوعاً نحو حديثِ البابِ، وفيه: ((ونهى أن يُصلِّي إذا أُقِيمت الصَّلاة))، وورد بصيغة النَّهي عند أحمد عن ابن بحينة في قصَّته هذه فقال: ((لا تجعَلُوا هذه الصَّلاةَ مثلَ الظُّهْرِ واجعلوا بينهمَا فصْلاً))، ورواهُ أحمدُ أيضاً بلفظ: ((فلا صَلاةَ إلَّا التي أُقِيمتْ)).
          ودخلَ في عُموم النَّفي سائر النَّوافل، راتبةً أم لا، فتُكرهُ عند إقامَةِ الصَّلاةِ، ويدلُّ لذلك ما زادهُ مسلمُ بن خالد عن عَمرو بن دينار في هذا الحديثِ: قيل: يا رسول الله، ولا ركعتي الفجرِ؟ قال: ((ولا ركعَتِي الفجرِ))، أخرجهُ ابن عَدِيٍّ بإسنادٍ حسن.
          قال في ((الفتح)): والمكتوبة تشمَلُ الحاضِرةَ والفائتة، لكن المراد: الحاضِرَة، وصرَّح بذلك أحمد والطَّحاوي من طريقٍ أخرى عن أبي سلمة عن أبي هُريرةَ بلفظ: ((إذا أُقِيمَتْ الصَّلاةُ فلا صلاةَ إلَّا التي أُقِيمتْ))، انتهى.
          ومثلهُ في العيني، ولينظر من أين جاءَتْ الصَّراحةُ؛ فإنَّ قوله: ((إلَّا التي أُقِيمت)) تشملُ الحاضِرَةَ والفائتَةَ، فتأمَّل.
          قال في ((الفتح)): هذه التَّرجمةُ لفظ حديثٍ أخرجهُ مسلمٌ وأصحاب السُّنن وابن خزيمة وابن حبَّان من رواية عَمرو بن دينار عن عطاء بن يسارٍ عن أبي هريرة، واختلفَ على ابنِ دينار في رفعهِ ووقفهِ، وقيل: ذلك هو السَّبب في كون البخاريِّ لم يخرِّجه، ولما كان الحكمُ صَحيحاً ذكره في التَّرجمة، وأخرجَ في الباب ما يُغني عنه، لكن حديث التَّرجمة أعمُّ من حديثِ الباب؛ لأنَّه يشملُ كلَّ الصَّلوات، وحديث الباب خاصٌّ بالصُّبح، ويحتملُ أنَّ اللام عهديَّةٌ فيتَّفقان من حيثُ اللَّفظ، وأمَّا من حيث المعنى فالحكمُ في جميعِ الصَّلواتِ واحدٌ.
          وأقول: العبرةُ بعمومِ اللفظ لا بخصوصِ السَّبب، فحديثُ لفظ الترجمة عامٌّ في جميع الصَّلوات، وإن كان سببُ إيراده ما وقع للرَّجل من الصَّلاةِ وقت إقامةِ الصبح، وإلا فحديثُ الباب ليس فيه النَّهي عن الصَّلاة صريحاً وقت إقامة الصَّلاةِ المكتوبةِ، على أنَّه يحتمل أنَّ قولهُ عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إذا أُقِيمَتْ الصَّلاةُ، فلا صَلاةَ إلا المكتوبةَ))، كان في غير وقتِ صلاةٍ، وعلى فرضهِ فالظَّاهرُ: أنَّه أراد بيان الحكمِ عامًّا.
          وإذا علمت ذلك فلا يظهرُ أيضاً قول العينيِّ معترضاً على ((الفتح)): لا حاجةَ إلى ذكر الاحتمَال؛ لأنَّ الأصلَ في اللام أن تكون للعهد، فحين قال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إذا أُقِيمتْ الصَّلاةُ))، لا نزاع أنَّه كان في وقت صلاةٍ من الصَّلوات، انتهى فتدبَّر.