الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب وجوب صلاة الجماعة

          ░29▒ (باب: وُجُوبِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ) قال في ((الفتح)): هكذَا بتَّ الحكم كأنَّه لقوَّة دَليله عندَهُ، وأطلقَ الوجُوبَ / فيشمل العينيَّ والكفَائي، لكن أثرُ الحسنِ يشعرُ بإرادة العينيِّ.
          واعترضَه العينيُّ بأربعة أمورٍ، فقال: قلتُ: لا يقالُ هذهِ القسْمَة إلَّا في الفرْضِ، فيقال: فرضُ عينٍ، وفرضُ كفايةٍ، اللَّهمَّ إلَّا أن يكونَ عندَ من لم يفرِّق بين الواجِبِ والفرْضِ، ومن أين علمَ أنَّ البخاريَّ أرادَ وجوبَ العين، ومن أين يدلُّ عليهِ أثرُ الحسَنِ، وكيفَ يجوز الاستدلالُ على وجوبِ العينِ بالأثَرِ المرويِّ عن التَّابعِي، وهذا محلُّ النَّظر، انتهى.
          وأقواهَا الأخيرُ ومع ذلكَ فلا يرد الاعتراضُ؛ لأنه قال: يشعرُ أنَّه يريد وجُوب عينٍ على أنَّ المصنِّف عادته في الآثارِ أن يستعمِلَها لتعيينِ أحدِ المحتمَلاتِ.
          وأقول: بل قال: الحديثُ دالٌّ عليه؛ لأنَّه لو كانَ فرضَ كفايةٍ لسقطَ الحرج بفعلِ النَّبي صلعم ومن معَه، فافهم.
          تنبيه: وقعَ في نسخ ((الفتح)) قبلَ هذه التَّرجمة زيادة أبوابِ الجمَاعة والإمامة، وقال فيه: لم يفردْهُ البخاريُّ بكتابٍ فيما رأينا من نسخِ كتابهِ، بل أتبَعَ به كتابَ الأذانِ لتعلُّقِهِ به، لكنَّه ترجمَ عليه أبو نُعيم في ((المستخرج)): كتابُ صلاةِ الجماعة، فلعلَّها رواية شيخهِ أبي أحمد الجُرْجَاني.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصريُّ (إِنْ مَنَعَتْهُ) أي: الرَّجل (أُمُّهُ عَنِ الْعِشَاءِ) أي: عن صلاتها (فِي الْجَمَاعَةِ) وفي بعضها: <جماعةٌ> بالتنكير (شَفَقَةً عَلَيْهِ) وسقط: <عليه> في الفرع (لَمْ يُطِعْهَا) قال شيخ الإسلام: خصَّ العشاء مع أنَّ غيرها مثلها؛ لأنَّها من أثقلِ الصَّلاةِ على المنافقين مع كون وقتها مظنَّة الخوفِ، وخصَّ الأم مع أنَّ الأب مثلها؛ لأنَّها أكثرُ شفقة منه على الأولادِ، ففيه دَلالة على كونِ الجمَاعة فرضُ عينٍ، وإلَّا لوجَبَ عليهِ إطاعتها، وقد توعَّدَ في الحديثِ تاركها بما ذكرَهُ، لكنَّه عليه أيضاً لا تتوقَّفُ صحَّتها عليها.
          قال في ((الفتح)): ولم ينبِّه أحدٌ من الشُّراح على من وصَلَ أثرَ الحسنِ، ووجدْتُه بمعناه وأصرَح وأتم في كتاب الصِّيام للحسينِ المروزي بإسنادٍ صحيحٍ عن الحسن في رجلٍ يصوم _يعني: تطوُّعاً_ فتأمرهُ أمُّه أن يفطرَ قال: فليفطر ولا قضاءَ عليه، وله أجرُ الصَّوم وأجرُ البرِّ، قيل: فتنهاه أن يصلِّي العشاء في جماعةٍ، قال: ليس لها ذلك هذه فريضةٌ، وهذا الأثرُ في بعض النُّسخ مذكورٌ آخر الباب قبله من أبوابِ الأذان، واللَّائق ذكره هنا، فافهم.
          ومقصُود البخاري: أنَّ الجماعة واجبةٌ للصَّلاة، ومن تركهَا لغيرِ عذرٍ فقد تركَ واجباً.
          قال ابنُ رجبٍ: وهذا قولُ كثيرٍ من السَّلف منهم الحسن، واختلفَ الأئمَّة فيها فذهبَ الشَّافعيَّة إلى أنها فرضُ كفَاية على الصَّحيح، وقال أحمدُ: فرضُ عينٍ، وقال أبو حنيفة ومالك: سنَّة.
          قال في ((مختصر خليل)): جماعةُ الفرضِ غير جمعة سنَّة ولا تتفاضل.
          وفي ((مختصر ابن الحاجب)): صلاة الجماعةِ سنَّة مؤكَّدة، وقيل: فرضُ كفاية والجماعاتُ سواء، وقيل: تتفاضلُ بالكثرةِ، انتهى.
          وفي ((منتهى الإرادات)) للحنَابلةِ مع شرحهِ: صلاةُ الجمَاعة واجبةٌ للصَّلوات الخمْسِ المؤدَّاة على الأعيانِ، وبهذا قال عطاء والحسن والأوزاعي وأبو ثور.
          واختار ابنُ عقيل أنَّها شرطٌ لصحَّة الصَّلاة، فعلى هذا لو صلَّى منفَرداً مع قُدرتهِ عليها لم تصحَّ صَلاته.
          والثَّاني: أنها سنَّة مؤكَّدة، وبه قال أبو حنيفةَ ومالك، انتهى ملخصاً.
          وقال العلائيُّ من الحنفيَّة في ((شرح الملتقَى)): الجماعةُ سنَّة في الصَّلوات الخمْس إلا الجمُعة والعيدين، فشرط مؤكَّدة تشبه الواجب، بل في ((البدائع)) وغيرها عامَّة المشايخ على وجوبهَا على الرِّجال الأحرارِ العُقلاءِ البَالغينَ القَادرينَ عليها بلا حرج، انتهى / .
          واختلف الشَّافعيَّة فقيل: إنها سنَّة مؤكَّدة في الفرَائضِ غير الجمعة، وقيل: فرضُ عينٍ، وعليه فالأصحُّ أنَّها ليستْ بشرطٍ لصحَّة الصَّلاة.
          وحكى الإمامُ عن ابنِ خزيمةَ: أنها شرطٌ فيها، وبعضُهم نقلَ عنه: أنَّها سنَّة، والأصحُّ أنها فرضُ كفايةٍ عندنا، وسيأتي أدلَّة ذلك في أثناءِ شرحِ الحديثِ.
          وقد أبدى الشَّيخ قطبُ الدِّين القسطلاني كما نقله عنه البرماويُّ في ((شرحِ عمدة الأحكامِ)) حكماً لطيفة لمشروعيَّة الجماعة في الصَّلوات منها: قيام نظامِ الألفَة بين المصلِّين، ولذا شرعتِ المساجد في المحالِّ؛ ليحصَل التَّعاهد باللِّقاء في أوقاتِ الصَّلوات بين الجيرانِ.
          ومنها: قد يتعلَّم الجاهل من العالمِ ما يجهله من أحكامهَا.
          ومنها: أنَّ مراتبَ النَّاس متفاوتةٌ في العبادةِ، فتعمُّ بركةَ الكَاملِ على النَّاقص، فتكمل صلاةُ الجميع.
          وقال الأسنويُّ من أئمَّتنا: الأصلُ في طلبِ الجمَاعة من الكتابِ قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] فأمر بالجماعةِ حال الخوفِ، ففي غيرها من بابِ أولى، ومن السنَّة ما سيأتي، وانعقدَ الإجماعُ على طلبهَا، والحكمةُ فيه أنَّ الاجتماعَ على الصَّلاةِ مشتملٌ على مَطْلوباتٍ كثيرةٍ كإفشاء السَّلام بين الحاضرينَ، والتودُّد لهم، ومعرفةُ أحوالهم فيقُومون بعيادةِ المرضَى، وتشييع الموتَى وإغاثة الملهوفينَ.
          ومنها نظافةُ القُلوبِ والتَّحريك للإنَابةِ والخضُوعِ، وزيادة العملِ عند مشَاهدةِ أرباب الجدِّ، فطلبَ الشَّارع اجتماع أهل الخُطط والمحال في مساجدهم في كلِّ يومٍ وليلةٍ خمس مرَّات، واجتماع أهلِ البلد في الجمعةِ مرَّة واحدة في المسجد الجامعِ، وأهلُ الرَّساتيق والسَّواد مع أهلِ البلد في السنة مرَّتين، وذلك في العيدين، واجتماع أهلِ الأمصار والأقاليمِ في السنة مرَّة واحدة في موقفِ عرفة، وفيها أيضاً على جهةِ الإيجاب في العمرِ مرَّة.
          تذييل: تتفاوتُ فضيلةُ الجمَاعةِ في الصَّلوات عندنا كأكثرِ العلماءِ خلافاً للمالكيَّة على الأصحِّ عندهم، ففي ((التُّحفة)) لابن حجر: والجماعة في الجمُعةِ ثمَّ صبحها ثمَّ في الصُّبح ثمَّ العشاء ثمَّ العصر أفضل، ولا ينافيهِ أنَّ العصر هي الوسطَى؛ لأن المشقَّة في ذينك أعظم، ويظهرُ تقديمَ الظُّهر على المغربِ أفضليَّة وجماعة.