الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إثم من لم يتم الصفوف

          ░75▒ (بَابُ إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ) أي: عند القيام للصَّلاة، وللأصيلي: <إثم من لم يتمَّ الصَّف> بالإفراد، وحذف <باب>، ولابن عساكر: <من لم يقم> من الإقامة، و<يُتمَّ> بياء مضمومة وميم مفتوحة للتخفيف.
          وجوَّز في ((المصابيح)) كسرها على أصل التقاء السَّاكنين، لا سيما وقبلها كسرةٌ تصلحُ لإتباعها.
          وهذه التَّرجمة دالَّةٌ صريحاً لا ظاهراً _كما قال العيني والكرماني_ على أنَّ البخاري يرى وجوب تسويةِ الصُّفوف، بخلاف ترجمته السَّابقة بقوله: باب تسوية الصُّفوف عند الإقامة وبعدها، وكأنَّه أخذ الوجوب كما قال في ((فتح الباري)) من صيغة الأمرِ في: ((سَوُّوا صفوفكم))، ومن عموم: ((صَلُّوا كما رأيتمُوني أصلي)) ومن ورودِ الوعيد على تركهِ، فترجَّح عنده بهذه القرائن أن إنكار أنسٍ إنما وقع على ترك الواجبِ، وإن كان قد يقعُ على ترك السُّنن.
          وقال الكرمانيُّ: فإن قلتُ: الحديث دلَّ على إقامة الصَّفِّ، والترجمة على إتمامهِ؟ قلت: عدمُ الإقامة، منكرٌ سواء كان لعدم الإتمامِ أو لعدم التَّسوية.
          وقال ابن رشيد: أوردَ في الباب حديث أنسٍ: ما أنكرتُ شيئاً إلا إنكم لا تقيمون الصُّفوف؛ يعني: فلولا أنَّ التَّسوية واجبةٌ لما أنكر عليهم، وتعقِّب: بأنَّ الإنكار قد يقعُ على ترك السُّنة فلا يدلُّ ذلك على حصول الإثمِ.
          وأُجيب: بأنَّه لعله حمل الأمرَ في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] على الشأن والحال لا على مجرَّدِ الصِّيغة، فيلزمُ الإثم على من خالفهُ.
          وأقول: تعقَّب العينيُّ التعقُّب: بأن الإنكار يستلزمُ المنكر، وفاعل المنكرِ آثمٌ. انتهى، مبنيٌّ على مذهبه، فلا يلزمُ من لا يسلمه، فافهم، وإنكار أنسٍ ظاهرٌ في أنَّهم خالفوا ما كانوا عليه زمنَ النَّبيِّ صلعم من إقامة الصُّفوف، فعليه تستلزمُ المخالفَة التَّأثيم، انتهى ملخَّصاً.
          قال في ((الفتح)): تبعاً للكرمانيِّ: وهو ضعيفٌ؛ لأنَّه يفضِي إلى أن لا يبقَى شيءٌ مسنونٌ؛ لأنَّ التأثيم إنما يحصلُ عن تركِ واجبٍ، انتهى.
          وأقول: هو كلامٌ حسنٌ جارٍ على قواعدنا.
          وأما قولُ العينيِّ: قول هذا القائل ضعيفٌ، بل هو ظاهرُ الفسَاد؛ لأنَّا لا نسلم أن حصُول التَّأثيم منحصرٌ في ترك الواجبِ، بل يحصلُ أيضاً في ترك السُّنة، ولا سيَّما إذا كانت مؤكَّدةً، انتهى، فهو / مبنيٌّ على قواعدِ الحنفيَّة، فتدبَّر.
          ثمَّ قال في ((الفتح)): وأما ما قال ابن بطَّال من أنَّ تسوية الصُّفوف لما كانت من السُّنن المندوب إليها التي يستحقُّ فاعلها المدح عليها دلَّ على أن تاركها يستحقُّ الذَّمَّ، فهو متعقَّبٌ؛ لأنَّه لا يلزم من ذمِّ تارك السُّنَّة أن يكون آثماً، سلمنا لكن يردُّ عليه التعقُّب الذي قبله، انتهى.
          وأقول: إذا سلم الإثم لمن ذكر كيف يرد عليه التعقُّب؟ فافهم.
          ثمَّ قال في ((الفتح)): ومع القول بوجوب التَّسوية، فصلاةُ من لم يستوِ صحيحةٌ لاختلاف الجهتين، ويؤيِّد ذلك أنَّ أنساً مع إنكارهِ عليهم لم يأمرهُم بإعادةِ الصَّلاة.
          وأفرطَ ابن حزمٍ فجزم بالبطلان، ونازعَ مدَّعي الإجماع على عدم الوجوبِ، بما صحَّ عن عمر أنَّه ضربَ قدم أبي عُثمان النَّهدي لإقامةِ الصَّفِّ، وبما صحَّ عن سويدِ بن غفلة أنَّه قال: كان بلالٌ يسوِّي مناكبنا ويضربُ أقدامنا في الصَّلاة، قال: ما كان عمر وبلال يضربان أحداً على ترك غير الواجب، وفيه نظرٌ لجوازِ أنهما كانا يريان التَّعزير على تركِ السُّنة.
          واعترضهُ العينيُّ فقال: في هذا النظر نظرٌ؛ لأنَّ قائله ناقضٌ قوله فيما مرَّ آنفاً: التَّأثيم إنما يحصلُ عن ترك واجبٍ، فإذا لم يأثم تارك السُّنَّة كيف يستحقُّ التَّعزير؟ بل الظَّاهرُ: أنَّ ضرَبهما لتركِ الأمر الذي ظاهرهُ الوجُوب ولاستحقَاق الوعيد في التَّرك، انتهى.
          وأقول: لم يناقض قوله المار: التَّأثيم إنما يحصلُ عن تركِ واجبٍ؛ لأنَّ الذي حصره فيما مر في ترك الواجب إنما هو التَّأثيم، وأما التَّعزير فقد يكون في غير الواجبِ كالسنة عند الشَّافعيَّة، وحينئذٍ فكيف يتوجَّه قوله: فإذا لم يكن تارك السُّنَّة... إلخ، فافهم.
          وقال ابن رجبٍ: وأمَّا استدلالُ البخاريِّ على إثم من لم يتمَّ الصَّفَّ ففيه نظرٌ، فإنَّ هذا إنما يدلُّ على أنه مما ينكر وقد ينكرُ المحرم والمكروه، وكأنَّ الاستدلال بحديث: ((لتسونَّ صُفُوفكُم أو ليخالفنَّ اللهُ بين وُجُوهكم)) على الإثمِ أظهرُ كما سبق التَّنبيه عليه، انتهى.